ها هي سورية تعاني معلقة لأنها ممسوكة بين جيشين، إن صح التعبير، ولو أن العسكر في سورية ساندوا الشعب لانتهت المعضلة وحقنت بحوراً من الدماء، إن العسكر هم طرف في المعادلة لا يمكن عزله تماماً عن المشهد الثوري، والطرف الناجح هو ذاك الذي ينجح في جذب العسكر إلى جانبه.
كتب الزميل العزيز وملك العمود الصحافي، الأستاذ حسن العيسى، مقالاً بعنوان “خياراتنا محدودة” يتحدث فيه عن الثورة المصرية وتحديداً عن مخاوفه من التدخل العسكري فيها. ولقد تحدث عن وجهة نظر الرافضين للدولة “الإخوانية” والرافضين كذلك لتدخل العسكر، والذي يبدو أن الأستاذ حسن يميل بقوة باتجاه رأيهم، قائلاً إن هؤلاء يرون أن الأغلبية المستبدة لا تكون مواجهتها “بالانقلاب عليها… وإنما بالعمل من خلال المؤسسات القائمة وعبر خلق الوعي العام لرفض وصايات الأغلبية”.
وهنا تطفو على السطح نقاط عدة، أولاً مع اختلاف الوضع السياسي من حيث نوعيته وأبعاده وحدة درجته، فإن المعارضين والمقاطعين في الكويت من الرافضين للدولة الدينية والذين كان من أقوى أصواتهم الأستاذ حسن، والذين كنت أنا شخصياً في صفوفهم رفضوا العمل من خلال المؤسسات القائمة لإيمانهم بعدم جدواها، واخترنا جميعاً طريق الاعتصامات والاحتجاجات ثم المقاطعة الانتخابية للتعبير عن رفضنا وإيماننا أن المؤسسات القائمة قد نخرها فساد وأضعفها فشل لم يعد الإصلاح من خلالها ممكناً.
بالطبع كلنا نؤمن بالطريق البرلماني والصندوق الانتخابي كممثلين للديمقراطية، إلا أنهما ليسا الممثلَين الوحيدَين، وأحياناً يصبحان عائقين للديمقراطية إذا ما شلتهما السلطة وحكومتها بالتدخل المستمر بالمال والنفوذ.
مرة أخرى، اختلاف الوضعين واضح بين الكويت ومصر، إلا أن المبدأ واحد، إما أن تؤمن بالعمل من خلال المؤسسات القائمة كخيار أوحد، فتطول نفسك وتلعب اللعبة أياً كانت قذارتها، وإما أن تؤمن بتحدي المؤسسات القائمة أحياناً كخيار قائم بغرض تنظيفها وإصلاحها.
ثانياً، لم يكن تدخل العسكر في ثورة 25 يناير التي احتفينا بها جميعاً بأقل، ولم تكن مخاوف وصول المتدينين للسلطة لتمنعنا من مساندتها ومباركة تدخل الجيش في صفوفها، بل إن التدخل العسكري بعد ثورة 25 يناير كان أقوى، حيث استلم الحكم بعدها المجلس الأعلى للقوات المسلحة وبقي العسكر في السلطة لفترة حتى استتب الأمر للبلد بالانتخابات التي أفرزت محمد مرسي. وهنا، لابد من الاعتراف بحقيقة مهمة برزت بوضوح في ثورتي مصر لـ25 يناير والأول من يوليو، ولربما في كل الثورات الإنسانية، فبلا تدخل العسكر لمصلحة طرف دون آخر لا ينتهي الصراع إلى شيء أو ينتهي بعد أن يدفع الشعب ثمناً باهظاً جداً، وها هي سورية تعاني معلقة لأنها ممسوكة بين جيشين، إن صح التعبير. ولو أن العسكر في سورية ساندوا الشعب لانتهت المعضلة وحقنت بحور من الدماء. إن العسكر هم طرف في المعادلة لا يمكن عزله تماماً عن المشهد الثوري، والطرف الناجح هو ذاك الذي ينجح في جذب العسكر إلى جانبه.
ثالثاً: لابد أن نضع في اعتبارنا أن التدخل العسكري اليوم مختلف عن التدخل العسكري منذ أربعين أو خمسين سنة مضت. لا بد لتوقعاتنا من تدخل العسكر ومن دوره في بناء الدولة أن تختلف لتتمركز في تحجيم وتقليم دور العسكر بل تغييره بمجمله؛ ليصبح ومع مساندته لطرف دون آخر دوراً منحصراً في الحماية واستتباب الأمن بأقل الخسائر الممكنة، لا بد أن نعمل على سحب هذه التوقعات لأرض الواقع.
في هذا القرن الجديد من الحياة البشرية، يجب أن تختلف توقعاتنا حتى تختلف إنجازاتنا، ولربما رأينا أن دور العسكر في الثورتين الأخيرتين في مصر مختلف تماماً عن دوره في انقلاب الضباط الأحرار في 1952 على سبيل المثال، بل إن الدور العسكري في ثورة الأول من يوليو يختلف عن سابقتها بسنتين، فالمجلس العسكري تعلم الدرس من ثورة 25 يناير، وأدرك أن النصر في النهاية لصوت الشعب، وأن أي إجراء سيتخذه سيظهره جهازاً سيئاً وسيحسب عليه للأبد.
بالطبع لسنا سوى مشاهدين خارج المشهد أيادينا على قلوبنا، نصلي وندعو كل يوم لثورة نظيفة أخطاؤها محدودة وانتصاراتها تتجلى في الالتزام بالقيم والمبادئ الديمقراطية والإنسانية الحقة، لتقضي بها على أي غرور أو استطابة للقوة والتسلط يصيبان أصحابها.
نعلم أن ثمن الثورات غالٍ، ولكننا نأمل من عالم اليوم المسكون بهاجس الحقوق الإنسانية واللاعنف، نأمل من تجارب المصريين وباعهم الطويل في الثورات والدفاع عن حقوقهم ومكتسباتهم وديمقراطيتهم، نأمل من كل هذا أن يجعل من هذه الثورة مثالاً مختلفاً.
ليس الخروج عن الشرعية بالخيار الآمن ولا هو عادة الخيار الأول، ولكنه أحياناً الخيار الوحيد بعد أن تفسد المؤسسة، وتنبعج أدواتها وتظلم طرقاتها؛ فتختفي شرعيتها ولا يبقى من وسيلة سوى خلق شرعية جديدة مضيئة طرقاتها حتى يتسنى للجميع السير فيها.
«آخر شي»:
بعد كتابة هذا المقال، حل خبر مجزرة صباح الاثنين 8 يوليو، مصحوباً بمحاولات كثيرة لتبريره، والتي هي ليست سوى الملح على الجرح. ضبط النفس والتزام الحكمة مطلوبان ومتوقعان من الطرف العسكري لا الشارع الذي يضم أنواعاً مختلفة من البشر. لا يؤذي العنف طرفاً دون آخر، إنما هو سم يسري في جسد الشعب بأكمله. لا بد من حث الخطى نحو السلام والتعايش والاندماج، فدونها لن تُبنى دولة، ولن يتماسك مجتمع، ولن تلتئم جراح.