وجد «هوبر» صغيرتي صوفي في وقت مرير الطعم، وكأن القدر أرسله لها كي يمسح على قلبها بحاجته وإعاقته وغلبته على أمره. التقت صوفي بهوبر في مركز لإيواء الحيوانات في الكويت، حيث تزور هي هذا المركز بانتظام لتقديم المساعدة ما أمكن. منذ طفولتها، كان لصوفي ولع شديد بالحيوانات، حب مختلف وعميق، من النوع الذي يؤلم القلب، ما كنت أعرف أن حبها المؤلم هذا سيكون مسكناً لأوجاع روحها ذات يوم من أيام شبابها، ذات مرحلة من أحلى مراحل حياتها التي يفترض أن تحياها بأتم السعادة، فكان نصيبها إبانها تجربة مؤلمة موجعة. أتذكر صوفي الصغيرة بشعرها الكثيف الملتف بثورته حول وجهها باكية: «ماما، طلال يعلق الديدان على الصنارة كي يصطاد السمك، هو يقتل الديدان والأسماك في ذات الوقت». احترت فيما أقول لهذه الصغيرة الخلابة، غريبة أطوار المحبة، عجيبة التعلق والرفق بهذه الكائنات الصامتة المغلوبة على أمرها. لا أكاد أنسى وجهها ذا الست سنوات المعجون بألمها الحقيقي تجاه معاناة الديدان والأسماك. لربما يومها كان يوماً إدراكياً أن هذه الصغيرة ستعاني كثيراً في هذه الحياة القاسية، سيكون نصيب ابنتي الرائعة هذه من الآلام أكثر بكثير من السعادة والأفراح.
ولقد بدأت القصة يوم وجدت صوفي الكلب هوبر في مأواه، مكسور اليد حد تهشمها التام، مما استوجب عملية بتر فورية لها. أخذت صوفي على عاتقها كافة التكاليف المادية واللوجستية، فدفعت ما كانت قد جمعته لتشتري به شيئاً يلزمها ثمن عملية هوبر والرعاية الطبية اللاحقة، وأشركته في غرفة نومها في بيتنا الصغير وقد تحولت إلى ممرضة خاصة به، ترعاه وتنزهه وترفه عنه حتى يعبر مرحلة الألم. في الأيام القليلة التي قضاها معنا هوبر، كنا نسمع أنينه حين كانت صوفي تغادر إلى مقر عملها، تعلق بها هوبر منقذة لحياته، وتعلقت هي به مطهراً لجرح قلبها العميق، جرح انفلت جارياً على روحها الرقيقة منذ بضع سنوات، ليبقى حاراً وحارقاً، لحين أن ظهر هوبر في الصورة، لتأخذه هي إلى روحها، تطبب به جراحها، وتبكي معه فقده ووجعها. علاقة عميقة شفيقة نشأت بين هذين الاثنين، علاقة تلقن درساً في معنى المحبة بين كل الكائنات الحية، علاقة تدفع بمراجعة معاني الحب والشفقة والرحمة ومن الذي يفترض أن يستحقها، وإلى أي حد يفترض بنا أن نذهب بها.
حين أخذ هوبر في التحسن، ظهرت شخصيته الوديعة الطفولية؛ تعلق هو بصوفي وكأنها الملجأ الأخير، وتعلقت هي به وكأنه مسكن الآلام الأوحد. تطور تعلق هوبر بصوفي حد نواحه الشديد حين كانت هي تغادر المنزل، فعَرَفت حينها أن ما يلزمه هو صحبة يبقى بينها يستطيع من خلالها الشعور بالأمان. نقلت صوفي هوبر إلى منزل ناشطة أخرى في إنقاذ الحيوانات ليكون بين أصدقاء من بني جنسه يخففون عنه الوحدة والفراق. وبعد مشاورات، أخبرتني صوفي أنها سترسل هوبر إلى كندا، حيث الرعاية الطبية في أفضل حالاتها بالنسبة للحيوانات ذوي الإعاقة المماثلة، وحيث الطقس والظروف المحيطة كلها تتنبأ بحياة أفضل وعمر أطول لهوبر.
عادت صوفي لطفلة ذات ستة أعوام، لربما هي لم تكبر قط. على عينيها السوداوين الواسعتين تشكلت غشاوة ألم تغطي البياض الذي أصبح مغرورقاً طوال الوقت، منذ أن أخذت قرار إرسال هوبر إلى النصف الثاني من الكرة الأرضية. بقيت تناضل وتناضل لتجد لهوبر مكاناً على أي طائرة مغادرة في أقرب وقت، وفي يوم السفر، بقيت تترجى وتتوسل كي تعكس القرار وتعيد هوبر معها إلى البيت. حاول بقية العاملين في الإنقاذ إقناعها بأن قرار رحيل هوبر هو الأفضل له، وفشلت كل محاولات إقناعها وتهدئة خاطرها، ورغم ذلك صهرت صوفي قلبها بقرارها، ليغادر هوبر ويبقى حنينها الدافق. كان لقاء صوفي الأخير بهوبر في المطار موجعاً، حاراً ومتدفقاً، حين ذهبت معه على أمل استعادته، ليتحول اللقاء إلى وداع أخير، رغم عدم اقتناعها، رغم وجع قلبها ورغم حماسة هوبر وحبه الدافق وإصراره على التعلق برقبتها.
«أخطأت يا أمي أن تركته يسافر، أنا غلطانة، فور وصوله سأذهب إلى كندا فأعيده إلى هنا»، قالت صوفي وهي عائدة من المطار بنهنهات معبأة بألم لا يتناسب وعشرينيات عمرها القليلة وحجم قلبها الصغير. «كيف سأعرف أنه بخير، كيف تركته، كيف أبعدته عني؟»، قالت بصوت مرتج ينبئ ببكاء مرير تحاول تحجيمه. «تضحيتك بحجم محبتك يا صغيرة،» أخبرتها، «ما عصرتِ قلبك سوى لتنقذيه وتؤمنين له حياة أفضل». بدا أن عقل صوفي يفهم ما أقول، في حين أن قلبها يكره كل حرف من حروفي. إلا أن المؤكد أن هوبر الآن في مكان آمن جميل، وأنه أنقذ صوفي كما أنقذته، عقم لها جرحاً لا يريد أن يندمل كما خلصته هي من جرحه الغائر، ساعدها كي ترى الصورة الأكبر، الحياة الأقسى والأمر، كي تنشغل بألمه عن ألمها، وبمساعدته عن حزنها. وهي بذلك، ودون أن تعرف، بلغت قمة التضحية، حين قررت أن تضع الحزن والألم جانباً لتطبب ألم كائن آخر وتخفف من مخاوفه وأوجاعه.
أسمته صوفي هوبر، أي «القافز» بالعربية، توصيفاً لحركته القافزة نتيجة فقدانه أحد أطرافه. بدا أن هوبر بالنسبة لنا جميعاً أكثر من مجرد كلب معاق، قست عليه الدنيا غليظة القلب بالبشر، فما البال بالحيوانات، بدا أنه رمزية لآلامنا وأوجاعنا، وتذكيراً بنمنماتها أمام أوجاع الدنيا الأخرى، وتنبيهاً إلى الواجب المؤلم بضرورة تخطي هذه الأوجاع الشخصية تطبيباً لأوجاع الآخرين. حاولت صوفي التخطي من أجل هوبر، وحاولت أنا التخطي من أجل صوفي، وشارك طلال أخته عمليات الإنقاذ باستمرار، وسامحنا حبيب قلبي المنزعج من تجمع الحيوانات في بيتنا الصغير، داخله وخارجه، على تطرفنا في محاولات الإنقاذ، وهكذا خلقنا سلسلة من التطبيب والتطبب، من النزوح عن الآلام من أجل آخر، أياً كان هذا الآخر، حتى لو كان «مجرد» كلب جريح معاق، ليس له منصف في هذه الدنيا كلها، لن يفرق في شيء فيها وجوده أو غيابه، لن يبكيه أحد أو يحبه. لكن القدر أنصفه، أو أنصف صوفي، أو أنصف كليهما، فجمعهما وقدم لهما فرصة ليهون أحدهما على الآخر. بقيت أنا أراقب المشهد من بعيد، أستشعر ألماً لا تعرفه سوى الأمهات المكلومات بألم الأبناء، أصلّي من أجل هوبر وصوفي، وأتعلم منهما، في لقائهما وفي فراقهما، كيف أكون إنسانة أفضل.