«واخزياه»

غريبة ردود فعل البشر، تلك الكائنات الهرمونية النفسية اللامنطقية المتهورة المرعوبة الجامعة لكل المتناقضات في قلب عقلها. حين بدأ التلميح بالتطبيع مع إسرائيل منذ سنوات عديدة، كان تلميحاً استحيائياً، تبريرياً، بل وحتى اعتذارياً. ولقد ارتفعت نبرة هذا التوجه وقويت شوكته مؤخراً لأسباب عدة، أولها الإنهاك الكلامي الذي أصاب الدول العربية من الشجب والاستنكار، فهذه مهمة ثقيلة كان الله في عونهم، إلا أن أهمها لربما هي المصالح المعقودة على هذا التطبيع. الاحتلال الإسرائيلي اقترب عمره من المئة عام، مئة عام من التطهيرات العنصرية والاستيطانات البشعة والعنف المصلحي الذي اتخذ له من الديانة غطاء وتبريراً، ولطالما كان الاستحقاق الديني للأرض هو المبرر البشري الأول لغزو الشعوب واحتلالها، الا أن إسرائيل خلال عمرها المديد الدموي هذا زرعت جذوراً، وعقدت صفقات من تحت الطاولات، وبنت الداخل علمياً وثقافياً وتكنولوجياً وحربياً، هذا فيما محيطها العربي مشغول بالمشاحنات السياسية والمعارك الطائفية، مما أهلها لأن تكون طرفاً مفاوضاً، وصولاً لأن تصبح الطرف الآمر الأقوى في هذه المعادلة.
ولقد ساهمت «السذاجة» العربية المسيطرة، حتى لا أقول «العبط»، في تقوية الموقف الإسرائيلي؛ فمن جهة كان الداخل الفلسطيني مهزوزاً ومشحوناً تماماً بين فتح وحماس وبقية الفصائل، مما خلق انعدام ثقة في الجبهة السياسية الفلسطينية بأذرعها العسكرية، وجعل التعامل معها خطيراً، وبات عقد الاتفاقات التي تربط الآخرين بها موضع تهديد سياسي حقيقي. وكان أن اتخذ ياسر عرفات موقفاً مؤلماً تماماً، على أقل تعبير، من الغزو العراقي للكويت، مما قلب الواجهة الخليجية عليه ليس فقط حكومياً بل وشعبياً، وهي القاعدة؛ أي الشعبية، التي كانت تستند إليها القضية الفلسطينية إقليمياً، فشُحنت القلوب وبُيتت الضغائن ولم يقو الناس على النسيان. وعلى حين اتخذ بعض الفلسطينيين، وليس الكل، موقفاً مشابهاً لموقف عرفات، إلا أن انحيازهم هذا، بالنسبة لي على الأقل، كان مفهوماً نفسياً وإن لم يكن كذلك منطقياً أو مبدئياً. أتفهم أن يمتد احتلال لمئة سنة، مما يجعلك تتعلق بقشة وتتمسك بأي وعود وإن كانت لا منطقية وقادمة من ديكتاتور دموي عتيد، إلا أن هذا التفهم لم يكن ليستقر في قلوب أهل الخليج الذين عانوا ما عانوا من أجل ومع الكويت إبان فترة الغزو وبعدها لسنوات. وما حرْق آبار النفط الكويتية وأثر ذلك اقتصادياً وبيئياً على المنطقة كلها، إلا أحد الأمثلة على تلك المعاناة المستمرة حتى اليوم.
ثم أتى التسويق الإسرائيلي الخفي لإيران على أنها العدو الجديد القوي في المنطقة، لننكفئ كلنا على وجوهنا ونتعلق بالشماعة الجديدة دون تخصيص شيء من المنطق السياسي والمعرفة التاريخية ليعيننا على تقييم الموقف. ليس لأن إيران ليست خطراً في المنطقة، هي كذلك، هي دولة كبيرة، تمتلك جيشاً، ومتقدمة سلاحياً، ومخابراتها متغلغلة في الدول العربية، وتمويلاتها المريبة تحتضن أسوأ الكينونات السياسية العربية… ولكن لحظة، كم دولة «عظمى» أخرى ينطبق عليها هذا التوصيف بتفاصيله؟ لماذا هذا التهويش بالإيرانيين تحديداً واستمراراً، دوناً عن غيرهم من القوى الكبيرة والقريبة كذلك في المنطقة؟ ولماذا تم تضخيم الخطر الإيراني حد القول المستمر ومنذ ما يزيد على الثلاثين سنة بغزوهم العسكري القادم الذي إلى الآن لم نر له تنفيذاً أو حتى مجرد مؤشرات. نعم، هناك غزو من نوع آخر، لكن كل الدول العظمى لها أساليبها الإمبريالية المختلفة، وهل أغرب من الغزو الأمريكي العالمي من خلال نشر مطاعم الفاست فود الشهيرة التابعة لها؟ إلا أننا ركزنا على إيران كالعدو العسكري الأول القائم في المنطقة، وضخمناها ونفخناها. وفيما نحن نفعل ذلك، تجاوباً –تحديداً- مع الخطة الإسرائيلية التي سعت لتضخيم الخطر الإيراني في عقولنا وقلوبنا، فقد نسينا العدو الأكبر والأخطر، بل حولناه بفعل فلسفة «عدو عدوي صديقي» إلى صديق قريب.
والآن، النجاح الإسرائيلي في أوجه حين ضُربنا، نحن الشعوب العربية- بعضنا ببعض. نظرة على وسائل التواصل تبين الحضيض النفسي الذي وصلت إليه الأمور. المستغرب أن المطبعين هم أكثر قسوة في الواقع عن غيرهم، ولربما يبدو لي الأمر كذلك لأنني أقف على الطرف الآخر من الموقف، إلا أن المتوقع أن يأتي المطبعون بخطوات استحيائية تبريرية هينة.. أن يصدروا تبريرات كأن يقولوا إن المصالح تحكم.. أو أن التطبيع سياسي مثلاً وليس نفسياً أو شعبياً مقبولاً. هذا الكلام صدر من القليل في الواقع، إلا أن الأغلبية المؤيدة لتوجه التطبيع كانت عنيفة، وكأنها تستبق اللوم بالهجوم، فأتى دفاعها عن الموقف غليظاً، ضارباً في قلوب دامية أصلاً، متناسياً تاريخاً طويلاً من الدماء، قاذفاً بالقضية العربية القومية الأولى في طيات النسيان، موقف قاس ومؤلم ولا يزيد شيئاً في المشهد سوى كمية الملح على الجرح، فلا هو بمبرر حقيقي للقرار، ولا بمسوق جيد للموقف، ولا حتى ضمادة صغيرة تغطي الجرح المؤلم الغائر القديم.
القسوة متوقعة من الواقعين تحت الاحتلال، من المغدورين المهجورين، لكن أن تأتي ممن اتخذوا موقفاً مصلحياً خالصاً وتخلوا عن قضية مبدئية هم أنفسهم ذات يوم كانوا يتغنون بها، فهذه غرابة وقسوة غير مستحقتين. لكل العرب، من الخليج إلى المحيط، إذا باتت القضية قديمة و»غير محرزة» بالنسبة لكم، فلا تحرقوا -على الأقل- قلوب أصحابها بالقسوة والهجوم العنيف. تحملوا شيئاً من ردود الأفعال، أقل ما تستطيعون في الموقف المخجل الذي نحن جميعاً فيه الآن.