الصورة قاتمة ولكن الإصلاح لا يزال ممكناً، إلا أن الإصلاح لا يتجزأ، فتطبيب هذا النزيف التعليمي يتطلب إيقاف كل نزيف آخر في أطراف جسد الدولة، والتي لن يصح عضو من أعضاء جسدها وبقيته معطوبة.
عندما يترك الفساد سائباً لفترة طويلة يصبح حقاً مكتسباً للمستفيدين منه، حتى إنه إذا ما حاولت الجهات المسؤولة الحد منه، تقوم قائمة المستفيدين وتثور غضبتهم لشعورهم بأن مكتسبات هذا الفساد أصبحت حقاً خالصاً لهم، فاستمرارية الفساد تغير من طبيعته ليصبح صلاحاً وحقاً مشروعاً كما تغير من رد فعل الناس تجاهه ليصبح مقبولاً ومعلناً ومتوقعاً. حاول الآن قطع دعم العمالة عن الآلاف غير المستحقين المتحصلين على هذا الدعم منذ سنوات طوال، حاول إيقاف الرواتب التي تصل إلى أصحابها في بيوتهم دون أن يخطوا في يوم داخل مقار أعمالهم، حاول إلغاء قطاعات وأقسام شبه شكلية مخلوقة خلقاً لتقديم خدمات توظيف وهمية، ماذا سيكون رد الفعل؟
اليوم الكثير من صور الفساد أصبحت معلنة وعلى رؤوس الأشهاد، فمرور الزمن والصمت الحكومي والقبول الجماعي أسبغت عليها شرعية حتى تحولت كلها إلى حقوق يدافع عنها مستفيدوها بكل شراسة. وهكذا تحول الغش في الامتحانات إلى قضية حقوقية، يستميت أصحابها في الدفاع عنها علناً وبكل أريحية، بل يأتون ممارسات عنيفة لتحقيقها وكأنهم ينفذون عمليات بطولية شبه انتحارية لاستعادة حقوقهم المغتصبة. وهكذا يُضرب مدرس في لجنة امتحانات، ويُخنق آخر، وتُقتحم مدرسة بسيارة تشغل مكبرات صوتية في استعراض بطولي لتنفيذ عملية الغش علناً وعلى رؤوس الأشهاد، وتتوالى الاعتداءات الكلامية والجسدية على كل من تسوّل له نفسه من المدرسين والمسؤولين محاولة الحد من ظاهرة الغش أو ضبط قاعات الاختبار. اليوم تحول الغش إلى حق مكتسب، تقتحم من أجله المدارس وترتفع في سبيله الأيادي، وتعلو من أجله صرخات المقاومة والإصرار، وكأن الدنيا انقلبت رأساً على عقب، وكأن الحق أصبح باطلاً والباطل تحول حقاً.
عندما يستتب الأمر للفساد بفعل الزمن يصبح الفاسدون أبطالاً، تصبح الوقاحة هي السمة العامة، حيث يُحتفى بالفساد في العلن ويُدافع عنه بملء الأفواه ويستميت من أجله مناضلوه، ويتحول مقاومو الفساد إلى أعداء يستحقون الضرب والخنق والتهديد، وتصل القضية إلى القضاء، هذه القضية المبدئية، القضية المنطقية، ليفصل هو فيما لا يحتاج إلى الفصل، ويمتلئ المجتمع بهؤلاء الأبطال الفاسدين، وتصبح هناك مشاكل غريبة عجيبة مثل مشاكل الشهادات المزورة ومشاكل خريجين لا تعكس معدلاتهم، بأي شكل واقعي، تقييمهم العلمي، ويمسك هؤلاء بعد زمن بسدة التعليم، فيصنعون مخرجات على شاكلتهم، ويدورون وندور معهم، حتى تغلق علينا دائرة الفساد تماماً، ويتحول الإصلاح الى عملية نضالية خطرة تتطلب سترة واقية وخوذة فولاذية.
الصورة قاتمة ولكن الإصلاح لا يزال ممكناً، إلا أن الإصلاح لا يتجزأ، تطبيب هذا النزيف التعليمي يتطلب إيقاف كل نزيف آخر في أطراف جسد الدولة، والتي لن يصح عضو من أعضاء جسدها وبقيته معطوبة. يجب ألا نختلف كمجتمع على هذه القضية، يجب ألا يكون بيننا من هو قادر، وعلناً، أن يدافع عن الغش والغشاشين، وفي حال وصولنا إلى هذه المرحلة فنحن فعلاً في خطر حقيقي، خطر يتضخم لا من انتشار فساد ما، بل من القبول به والدفاع عنه.
دعواتكم في هذا الشهر الفضيل ألا تختفي هذه القصة مثل سابقاتها، ألا يردمها سكوتنا وقصر أنفاسنا في محاربة الفساد، ألا يقبرها نهائياً المستنفعون مطاطو الأخلاق في سراديب فسادهم التي لا نهاية لها، دعواتكم في هذا الشهر الفضيل ألا ننسى سريعاً، قولوا آمين.
* من منا يستطيع أن ينسى قصة “المطاطو” في مسرحية “باي باي لندن”؟ رحمك الله أبا عدنان، فراقك خلق أزمة وجودية لا تريد أن تنتهي.