منذ بداية فرض الحظر الكلي في الكويت، في 10 مايو/أيار، ظهرت مشكلة «طريفة» وإن جادة عند الرجال متعددي الزوجات، وخصوصاً المعددين بالسر، حيث بدا لهم أنه يجب عليهم اختيار بيت محدد ليمكثوا فيه طوال فترة الحظر. تفاعلاً مع المشكلة، أقرت الحكومة الكويتية يومين بالأسبوع، تحدد حسب اختيار الزوج، لأخذ تصريح لزيارة البيت الآخر، معلنة أنه «سيتم تثبيت عنوان الزوجة للتصاريح المقبلة». وقد دارت حوارات، وبالطبع مزحات، طريفة حول الموضوع من حيث كيفية توزيع الأيام وحول انكشاف الكثير من الأزواج وما سينالهم جراء هذا الكشف وغيرها من الحوارات التي عادة على خطورتها وجديتها، يضفي عليها البشر منحى مزاحياً مخففاً في التعامل معها.
وبعيداً عن كل المزاح، فلقد أصابت الحكومة الكويتية في انتباهها لهذا الوضع الأسري المتعقد إبان الحظر وتقريرها لحلول تخفيفية له وتطويعية لمتطلباته. لذا، لربما لا يفترض أن يدور الحوار حول صحة قرار الحكومة من عدمه، حيث ارتأى البعض أن هذا التصريح بالتنقل للزوج المعدد هو مدعاة خطر من حيث نشر المرض، ذلك أنه بما أن الحكومة قد شرعت أصلاً لتعدد الزوجات وسمحت به في منظومتها القانونية، فإنه لزاماً عليها التعامل مع تداعياته، وهي تداعيات ملأت ساحات المحاكم بالقضايا وساحات البيوت بالمشاكل مسبقاً لأزمة الكورونا، ثم خلقت فجوة في نسيج العلاقات الطبيعية بين الأسر إبان الأزمة كان لزاماً على الحكومة الكويتية، وأي حكومة أخرى في العالم يكون من ضمن تشريعاتها تعديد الزوجات، التعامل مع آثارها ومخرجاتها.
هذه الأزمة الاجتماعية تشكلت حقيقة واقعة في كل الدول العربية الإسلامية التي تجيز التعدد بصورة أو بأخرى، ومشكلة الكويت هنا مثال. فهذه الأزمة دفعت بالسؤال المتكرر للسطح مجدداً، هل يحق للدولة، من المنظور الحقوقي، أن تشرع ضد تعدد الزوجات، أي أن تمنعه، كما هو الوضع في بعض دول المغرب العربي؟ في رأيي، إذا أتت صيغة تشكيل الأسرة، أياً كان شكلها وأياً كانت درجة قبول الناس والمجتمع بها، برضا كل الأطراف الداخلين في تشكيلها، فيفترض أن هذا حق إنساني خالص لا نزاع عليه، ولا يجب حرمان الراغبين فيه من تحقيقه. إلا أن المسألة ليست بهذه البساطة، فلكل جانب حقوقي جانب حقوقي مقابل آخر، «مساو له في المقدار، مخالف له في الاتجاه» وهذا يجب أخذه بعين الاعتبار تماماً وإلا أصبح التشريع تمييزياً منقوصاً. فكيف تتداخل هذه الجوانب في موضوع تعديد الزوجات؟
أولاً، في الدولة المدنية يفترض أن يتم التشريع الحقوقي دون النظر لجنس المشرع لهم (إلا فيما ندر) وعليه، إذا ما تم إعطاء الرجل حق تشكيل الأسرة التي يريدها، يجب إعطاء كل الأطراف المجتمعية الأخرى ذات الحق، وبهذا المنطق البحت، يجب إعطاء المرأة كذلك حق التعديد طبقاً لمفاهيم التشريع المدني العادلة. ولأن ذلك طبعاً مرفوض تماماً دينياً واجتماعياً وثقافياً عند البشر، إلا في قلة من المجتمعات المغمورة، فإنه بالتالي لا يجب التشريع لحق للرجل لا يمكن للمرأة أن تحصل عليه بذات الدرجة وبذات الشكل والصيغة. بكل تأكيد، كل أنواع التشريع، بما فيها المدني العلماني الخالص منه، تدخل في صياغته العادات والتقاليد والقراءات الدينية التي تشكل، شاء المشرع أم أبى، طبيعة الحياة الاجتماعية، إلا أنه يفترض ألا تأخذ هذه الجوانب الحيز الأكبر من التشريع حتى لتطغى على حقوق الناس وعلى مفهوم المساواة المواطني التام بينهم. ما لا يمكن تشريعه لأنثى لا يجب تشريعه لذكر، إلا طبعاً فيما يخص الحالات البيولوجية التي لا يمكن تفاديها كحالات الحمل والولادة والتي قد تتطلب بعض التشريعات الخاصة، هذه هي القاعدة المدنية الرئيسية.
ثانياً، يفترض الأخذ بعين الاعتبار عند التشريع مقدار النفع إلى مقدار الضرر اللذين قد ينتجان من القانون المُشَرع. تونس قد قدمت هذه الرؤية على سبيل المثال في طور إلغائها لتشريع تعدد الزوجات. فحين جوبهت الحكومة بحجة أن ذلك قد يوقع العديد من الرجال في معاصٍ وأخطاء تُراكِم عليهم الآثام، كان الرد الحكومي أن الدولة مسؤولة عن حماية حقوق الناس في الحياة الدنيا لا أن تحميهم من نار الآخرة. الدولة مؤسسة مدنية، تنظم حيوات الناس الدنيوية وتمنعهم من الطغيان على بعضهم البعض ناظرة لهم بعين المساواة المدنية المواطنية، أما غير ذلك، فهو شأن الأفراد لا شأن المؤسسة المدنية التنظيمية، أي الحكومة. هذا، ويتسبب تعديد الزوجات في العديد من المشاكل الأسرية التي تجرجر أصحابها إلى المحاكم وتبث عداوات وكراهيات طويلة الزمن بين إخوة وأخوات غير أشقاء، لتتسرب الخلافات عبر الأجيال وتنقسم الأسر وتهضم في خضم كل ذلك الكثير من الحقوق. إن أسعفتني الذاكرة، تلك كانت إحدى حجج الحكومة التونسية، من حيث إن التعديد يأتي بامرأة أخرى تشارك الأولى في بيتها وحقوق أبنائها وأموالهم، وهذا مما هو غاية في الضرر بالمنظومة الاجتماعية الأسرية وبالنفسيات التي تشكلها وبالمستقبل الذي سيحمل آثار عداواتها لعشرات وربما مئات السنوات. الحكومة التونسية ترى أنها ملزمة بحماية حقوق المرأة والأبناء كمواطنين لا بضمان عدم وقوع الرجل في الآثام كمسلم، فالأولى تشكل دورها التنظيمي كدولة، في حين أن الثانية هي مسؤولية الفرد الخاصة.
ما أحاول قوله هو أنه بما أن تشريع تعديد الزوجات موجود، إذن لا مناص من التعامل مع آثاره حتى إبان أزمة عالمية مرعبة كالتي نمر بها. لذا، فإنه لزاماً على الدول المشرع فيها للتعديد أن تسهل الأمور وتقدم الاستثناءات التي، وعلى الرغم من أنها قد تزيد من كمية مخاطر التخالط والإصابات، هي ملزِمة للدولة بما أنها قد شرعت من البداية لهذا الممارسة. أما الأَولى والأصح فهو تفادي التشريع على أساس عاداتي وتقاليدي أو طبقاً لقراءات دينية معينة والذي، بجانب أنه ليس ممارسة مدنية، من شأنه أن يخلق حالات اجتماعية وإنسانية بالغة التعقيد ستتطلب المزيد من التشريع المستقبلي وستفرخ هي بحد ذاتها حالات أخرى أكثر تعقيداً ستستلزم حلولاً أكثر غرابة وتعقيداً.
من الوجهة الحقوقية، الميل دوماً يكون في اتجاه التشريع لتحرير الناس في اختيار حيواتهم وأشكال أسرهم أياً كانت، إلا أن ذلك لا يجب أن يتم تمييزاً على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو غيرها من التصنيفات الجسدية أو الأيديولوجية، ولا يجب أن تزيد مضاره على الأفراد والمجتمع عن منافعه. تلك بكل تأكيد موازنة صعبة، إلا أن الدولة المدنية المستقرة لا تتشكل إلا باستتبابها.