للأسف تحول الحوار الآن مما يجب أن يكونه من مناقشة الوضع التعليمي في البلاد والمشاكل المزمنة في المناهج والأساليب التعليمية الى تعديد مظلوميات الفئات والأصول، فمن أجل حفنة من الأصوات ورفع مستوى شعبيته يضرب نائب الأمة قلب الأمة، مثبتاً مفهوم التقسيم والتفرقة ومعززاً مشاعر المظلومية العمياء.
حين قرأت تعليق أحد النواب حول استنتاجه أن وضع شرط “الآيلتس” للقبول لبعثات خارجية هو مؤامرة ضد أبناء القبائل للحد من سيطرة الأخيرين على الاتحادات الطلابية في الخارج تبادر لذهني مباشرة أن أقوم بعمل لم أقم به طوال سنوات تدريسي في جامعة الكويت، قررت أن أعود إلى قوائم أسماء طلبتي في آخر ثلاث فصول دراسية للتثبت من أداء الطلبة أبناء وبنات القبائل الذين يتهمهم النائب بأنهم أقل من غيرهم من فئات المجتمع في تحصيلهم اللغوي، وهو اتهام خطير يتناول فيه هذا النائب القدرات العقلية لهؤلاء الطلبة، وكأن انتماءهم الأصولي للقبائل يقلل من قدراتهم على التحصيل العلمي، وخصوصاً أن كل طلبة الكويت، قبائل وحضرا وغيرهم يذهبون إلى المدارس الحكومية والخاصة ذاتها، وأن أبناء وبنات القبائل يشكلون نسبة جيدة من طلبة المدارس الخاصة.
إن هذا النوع من التقييم، أي تقييم القدرات العلمية والعقلية على أساس انتماءات وأصول عرقية هو أحد أسوأ التقييمات ذات الطبيعة النازية في الواقع، والتي طواها الزمن مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث إنه في ذلك الوقت كان يُعتقد أن النساء والسود وجموع الأصول السامية لها قدرات عقلية أقل، بل كان هناك “بحوث علمية” تؤكد هذه الأفكار. طوى العلم الحقيقي والزمن والمنطق والعقل والضمير والشعور بالحياء ومبدأ احترام القيمة الإنسانية هذه الأفكار العنصرية المريضة، وأحيتها من جديد تصريحات في الكويت، يرى من خلالها نواب في المجلس أن أصول وأعراق الناس تحدد قدراتهم على إتقان تعلم اللغات. هذا التصريح الهادف إلى استثارة المشاعر هو في الواقع إهانة مباشرة لأبناء وبنات القبائل ولطلبتنا الذين تعبوا وجدّوا للوصول إلى درجات تحصيلهم العلمي، وكذلك لتبوء مراكزهم في الاتحادات الطلابية.
المهم أنني عدت في حركة ساذجة لقوائم طلبتي لأنظر في درجاتهم، فالتصريحات العنصرية تدفع بنا أحياناً لردود فعل ساذجة. أنا أعرف طلبتي بأسمائهم الأولى والثانية، أنادي عليهم في الصف الدراسي بهذين الاسمين، لا أحفظ أسماء عوائلهم، وإن عرفتها لا أستطيع فعلياً أن أميز إن كانوا ينتمون إلى قبائل أو لا إلا في حال وجود اسم صريح وواضح يشير مباشرة لقبيلة شهيرة. على كل عدت للأسماء واتضح لي أن البعض من أكثر الطلبة المميزين في القسم يحملون أسماء عائلات قبلية، وأن البعض من أجدر مبعوثينا لهم الأسماء ذاتها، لم أجد أي إشارة في حصيلة الدرجات الى فكرة أن اسم العائلة له علاقة بالقدرات العلمية، ومما لا يحتاج كذلك لتأكيد فإن الشكل الخارجي “المودرن” وإتقان اللكنة الأميركية مثلاً وغيرها من أشكال التأثر بالحضارات المختلفة لا علاقة لها جميعاً بالتحصيل العلمي مطلقاً. كيف إذاً تم خلق هذا الرابط بين الطلبة أبناء القبائل وبين درجة التحصيل؟ وكيف يجرو نائب يمثل أمة بأكملها على إهانة هذه الفئة بالتلميح الى قدراتهم العلمية الأقل؟ وماذا عن الفئات الأخرى كالعجم والشيعة والطبقات المتوسطة الدخل وغيرهم من غير فئة الكويتيين التجار؟ هل تتأثر قدرات هؤلاء في التحصيل العلمي كذلك؟ هل التحصيل العلمي له علاقة بالطبقة الاجتماعية والحساب في البنك؟ إن كان كذلك أليس بين القبائل من ينتمي إلى أعلى الطبقات الاقتصادية في البلاد؟ وإن كان كذلك فما معنى ظاهرة تفوق أبناء المقيمين من الطبقة المتوسطة وما دونها؟ كيفما حسبته وكيفما تداولته، سيبدو لك التصريح قبيحاً عنصرياً (ضد أبناء القبائل في الواقع) أو منعدم الذكاء على أقل تقدير.
للأسف تحول الحوار الآن مما يجب أن يكونه من مناقشة الوضع التعليمي في البلاد والمشاكل المزمنة في المناهج والأساليب التعليمية الى تعديد مظلوميات الفئات والأصول، فمن أجل حفنة من الأصوات ورفع مستوى شعبيته يضرب نائب الأمة قلب الأمة، مثبتاً (وليس هو الأول) مفهوم التقسيم والتفرقة ومعززاً مشاعر المظلومية العمياء التي لا ترى أبعد من موقف قدميها، مقوياً مركزه بالدعس على مشاعر الناس، على مواقع الجراح، على قلق الآباء والأمهات ومخاوفهم على مصالح أبنائهم، وهكذا، ومن أجل تحري هذا التصريح الغريب دفع بي هذا النائب في تصرف ساذج لأن أستخرج أوراقي ولأول مرة أراجع الأسماء الأخيرة لطلبتي، هكذا تُحول التصريحات البغيضة نفوسنا فتدفع بنا، في عارض صدنا لها، للهبوط الى مستواها، ولتبني الحماقة في عارض ردنا على حماقتها.
نعم هناك تنميط وتمييز ضد بعض الفئات في البلد، البدو والشيعة مثالاً، مما دفع العديد من نواب هاتين الفئتين، والشيعة أسبق في هذا المجال، لتبني موقع المظلومية واللعب على أوتار المخاوف، لكن واقع الحال يقول إننا جميعاً ننال القسط ذاته من التعليم والفرص ذاتها تقريباً من العمل، ومن يجدّ ويجتهد فسيجد العديد من الفرص الرائعة له في هذا البلد. يجب ألا يكون هذا هو الحوار اليوم، من المعيب أن يقال هذا الكلام جنباً الى جنب مع موضوع تعليمي بحت، ولكنه الحمق يستدعي مثيله في الرد عليه بكل أسف. تعالوا بنا الى شيء من العقلانية، ولنساعد أبناءنا على تغيير نظرتهم لمفهوم التحصيل عموماً والذي يستوجب الجد والعمل بعيداً تماما عن طرق المحسوبيات والوساطات السهلة، تعالوا بنا لنخبرهم أن الدنيا أكبر من الكويت فقط، وأن الواسطة التي تعمل هنا لن تخدمهم في الدنيا الكبيرة وأن اعتماد التقسيمات والتجاوب ومفهوم المظلومية والتفاعل ومحاولات استثارة المشاعر لن تؤدي إلا للمزيد من الخسائر، تعالوا نعيد لهم ثقتهم بأنفسهم ونحملهم مسؤولية تقصيرهم، لا نبرر الغش ولا نسهل الوصول ولا نخبرهم أن الطريق الصعب سببه تحيز ضدهم وأن أحداً (حاط عليهم)، الطريق صعب لأن نهايته تستحق، وليقطعوه ليس عليهم أن يمثلوا دور الضحية، بل أن يخطوا خطو الأبطال. هكذا سيكبر أبناؤنا ناجحين أصحاء.