نشاز

معيب بحق الأمة العربية كلها أن تدعي مدنية دولها والمرأة فيها تعتبر مواطناً من الدرجة الثانية بسبب جنسها. تتغنى معظم دولنا وحكوماتها بديمقراطياتها ومدنياتها، بعض منها بدساتيرها التي تسطر الجمل الملحمية في المساواة والمواطنة، لتأتي عند المرأة، حينئذ تتراجع وتنقلب أغنياتها الطربية إلى نشاز رديء. تونس استثناء، ولربما المغرب استثناء أقل، المرأة في كل الدول العربية تعامل معاملة القاصر، المواطن «نص كم»، لتكون أنوثتها عبئاً عليها وقاطعة طريق بينها وبين استكمال حقوقها المدنية الكاملة.
وأقبح ما في هذا الحوار يظهر حين الحديث عن تجنيس أبناء المرأة العربية، فما زالت المرأة محرومة من تجنيس أبنائها بحجة انتماء هؤلاء الأبناء للأب، يحملون اسمه وهويته ودينه وجنسيته. هنا يظهر خلط واضح في المفاهيم وسذاجة تصل، مع الاعتذار، حد الغباء في تقييم وترتيب الأمور. فكرة انتماء الأبناء للأب هي فكرة بطريركية أبوية خالصة، نتاج عالم كان مبنياً على القيادة الذكورية التي ينتج عنها الملكية الذكورية لكل شيء، بما في ذلك الزوجة والأبناء. ففي أوروبا ووصولاً إلى القرن الثامن عشر، لم تكن المرأة تمتلك شيئاً بما في ذلك نفسها، وإن تصادف وكان لها أرض أو مال، انتقلت ملكيتهما مع ملكية روحها بحد ذاتها إلى الزوج الذي له أن يتصرف بهما وبها كيفما شاء.
حين وصل العالم إلى مُعاصرة إنسانية حقوقية، بدأ حال المرأة يتحسن تباعاً (مع بداية القرن العشرين) لتبدأ في نيل حقوق إنسانية بسيطة وصولاً إلى اكتمال منظومة حقوقها المدنية كاملة كمواطنة مكتملة الوجود في الدولة المدنية. في عالمنا الشرق أوسطي، لا نزال نعيش في «الأوسطي»، حيث لدولنا شكل مدني «بذكورها» المواطنين، يمتلكون ويبيعون ويشترون ويدخلون في عقود ويخرجون منها بإرادتهم، يتحصلون على جنسية بلدانهم ويورثونها لأبنائهم، كما ولها شكل عشائري بإناثها التابعات اللواتي يدخلن في عقود (خصوصاً الزواج) بإذن الأب ولا يخرجن منها إلا برضا وإذن الزوج، إناث مهما بلغت خصوبتهن يبقين «عاقرات مدنياً» لا يورثن جنسياتهن للأبناء، فهن جذع شجرة مبتور، لا مداد له ولا استمرار، أسماء تظهر وتختفي في الحياة بلا سابق ولا لاحق.
ولا يزيد الطين بلة سوى خلط الناس للحابل بالنابل، فيأتون بالمفاهيم الدينية لتقييم مفهوم مدني معاصر لا علاقة له بالدين لا من قريب ولا من بعيد. الجنسية موضوع مدني، ليس له ذكر في الفقه الديني، ليس له صورة تنظيمية ولا تشريع، هو اختراع مدني بحت، أتى ملازماً للدولة المدنية المعاصرة، التشريع له تشريع مدني قانوني، يعامل من خلاله كل المواطنين، ذكوراً وإناثا، مسلمين، مسيحيين، يهوداً، بوذيين أو غيرهم، معاملة واحدة، حيث لا يفترض أن «ترى» الجنسية هذه الفروق، فهي ليست صكاً عشائرياً أصولياً، وليست امتداداً عرقياً، وليست ارتباطاً عقائدياً.
الجنسية صك انتماء روح وهوية بأرض، لا علاقة لمفاهيمها بكل المفاهيم العشائرية والقراءات الدينية القديمة لا من قريب ولا من بعيد.
ولكن «نقول ثور يقولون احلبوه»، تعبنا ونحن نلوك الحجج ونقدم البراهين، بالمنطق يا جماعة، بالعقل يا سادة، ما علاقة كون المواطنة أنثى بتجنيس أبنائها؟ تكوين البشر بيولوجياً نصفه من الأب ونصفه من الأم، لذا فإن المواطن الذكر الذي يتزوج امراة غير مواطنة ستختلط دماء أبنائه كذلك وسيصبح نصفهم «غريباً»، فما الذي يجعل الغربة البيولوجية لأبناء المرأة أكبر من الغربة البيولوجية لأبناء الرجل؟ هل يعتقد أصحاب هذا الرأي أن الرجل، بذكورته، يقدم جينات أكثر مثلاً؟ أن الدم الذي يسري في عروق الأبناء معظمه وارد من الجانب الذكوري في العلاقة؟ أي جنون هذا؟ أي لا منطقية ولا علمية وسذاجة تشريعاتية هي تلك؟
لا العلم يساند هذا الادعاء الذكوري ولا المنطق المدني ولا المفاهيم الحقوقية ولا مبادئ العدالة والمساواة ولا حتى الدين في خلوه من أي إشارة لمفهوم الجنسية، تعريفاً أو تنظيماً، وفي قراءاته الحديثة التنويرية للدولة المدنية… فعلام استمرار هذه المنهجية الرجعية الشوفينية المحرجة؟ علام تغريب أبناء المرأة ودفعها قسراً لتشعر بالغربة والانعزال في بلدها؟