هل يعرف العنصريون أنهم كذلك؟ في رأيي لربما في الغالب يستطيعون تمييز عنصريتهم وهم كذلك ضالعون في تبريرها. كثيراً ما يردد العنصريون جملة مثل «لو كانت محبتي لوطني (أو لديني أو لأصلي) وخوفي عليه عنصرية، فأنا عنصري»، وهي الجملة الكليشيهية التي يرونها تقدم التبرير الأفضل لتوجههم، التبرير المغلف ببطولة وتضحية، بطولة المحب للوطن (أو للدين أو للأصل) وتضحيته له بتحمله لوصف العنصرية.
وليس كل العنصريين سواء، فهناك من تتسبب عنصريتهم في كوارث ضخمة وفورية، عنصرية حرب التوتسي والهوتو على سبيل المثال، التي قتل فيها ما يقترب من المليون شخص في محاولة إبادة عرقية، عنصرية هتلر التي أدخلت العالم بمجمله في حرب عالمية مروعة، عنصرية النظام الصهيوني الذي شرد ما يقرب من سبعة ملايين فلسطيني خارج أرضهم وذلك بخلاف عدد القتلى الذين، في تصوري، لا يمكن حقيقة حصر عددهم.
ثم هناك من تزحف عنصرياتهم ببطء وهدوء، كأنها حيّات صغيرة باهتة، لا يمكن تمييزها، عنصريون «لطيفون»، يبثون عنصرياتهم في أشكال كوميدية، في قوالب مزاحية، في كلمة هنا أو لقب هناك أو جملة ساخرة هنالك. هؤلاء يعتقدون أن عنصرياتهم بريئة، غير ضارة، مجرد فكاهات ينفسون بها عن تمييزاتهم اللذيذة. وأنا أعتقد حقيقة أن المشاعر التمييزية العنصرية لها لذة لا تفوقها أخرى، أو يتداولون من خلالها نقداً سياسياً حياتياً خفيفاً لا يصيب، في ظنهم، المعنيين بأي ضرر. هؤلاء يتداولون في الغالب لغة خاصة، معلقة بلزوجة دوماً على أطراف ألسنتهم، يرمون كلماتها برعونة مقتنعين أو مقنعين أنفسهم أن تلك مجرد كلمات لا تضر ولا تنفع، مجرد تعابير متداولة إما أنها أصبحت جزءاً من اللغة السائدة أو أنها أضحت وسيلة نقد مخففة، وفي الحالتين هم لا يميزون ضرراً لهذه الحيات التي تنبعث من جوفهم، ولا قبحاً لهذا الرذاذ السام الذي يتناثر مع كلماتهم. مغيبون وليسوا مغيبين، حالة تناقضية عجيبة يعيشها هؤلاء العنصريون والتي هي معبرة عن غرابة وتعقيد النفس الإنسانية وبدائية وعيها الذي هو بعد في مراحل تطوره الأولى.
ولكل مجتمع عنصرياته وعنصريوه، لا يخلو مجتمع من ذلك، وإن كان بعضها تحكمه قوانين أخلاقية وعرفية صارمة تمنع ظهور هذه العنصريات وتفعيلها وتخفض صوت العنصريين إلى حد أدنى. في المجتمعات الساخنة أيديولوجياً، المحكومة بشعارات قديمة مثل «بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام»، المعجونة بمفاهيم الرضوخ العقائدي المطلق الذي لا يقبل تساؤلاً أو نقداً أو تطويراً، تلك مجتمعات لا يخجل أهلها من إعلاء صوت عنصرياتهم بل والتباهي بها ظناً منهم أنها تعبر عن حب الوطن، والإخلاص للانتماء أو التفاني من أجل الدين دون أن يستوعبوا أنهم بسلوكهم إنما يظهرون نقاط ضعف ما يدافعون عنه. في الكويت درجت ألفاظ مثل «مصاروة وزلمات وفلبن» لإضفاء شيء من «التقليل» على أصحاب هذه الانتماءات، ولا أشك بأنه في المجتمعات المقابلة توجد كلمات «تقليلية» مشابهة لأهل الخليج. في إيران يطلقون لفظة «عربو» تصغيراً للانتماء العربي، وفي مصر هناك عبارات «صحراوية» تستعمل لتوصيف أهل الخليج. في أمريكا تستخدم كلمات دخلت القواميس العالمية اليوم لتوصيف الأسود والأمريكي الأصلي واللاتيني وغيرهم، وفي المنطقة الشرق أوسطية بمجملها تستخدم كلمة يهودي كشتيمة مباشرة. الأمثلة لا تعد ولا تحصى، لكن ردود أفعال الشعوب يمكن حصرها ودراستها، وحالياً يبدو أن رد الفعل الخليجي هو الأعنف والأخطر، وهو ما سيدخلنا مفترق طرق مع العالم أجمع.
جادل البعض على تويتر بشيء من اللطافة، وآخرون بالكثير من العنف، أن كلمات مثل «مصاروة وزلمات» المستخدمة في الكويت هي طبيعية تماماً، مجرد مفردات أصبحت لها سمة الطبيعية في اللهجة. المثير في الموضوع، وأنا هنا أستنتج ما في الصدور لمعرفتي بمجتمعي وأفراده، أنهم يعرفون أن هذه الكلمات ليست عادية وأن وزنها ليس طبيعياً في مكيال التمييز العنصري. هؤلاء أشخاص يعرفون الفرق بين «مصريين ومصاروة» ويعرفون كيف يبدلون «فلبينيين» و«فلبين» حسب الموقف والمناسبة. هؤلاء هم ذاتهم الأشخاص الذين يتحدثون عن العمالة المنزلية وكأنها كلها امرأة واحدة ذات وجه واحد وخلفية اجتماعية واحدة. هؤلاء هم من يمعنون في تبهيت الصورة لهؤلاء العاملات الفلبينيات فيلبسوهن «يونيفورم» يميزهن عن البقية حتى وهن خارجات معهم في نزهات عائلية لا نصيب لهن من متعها بشيء، ليجلسوهن على طاولات مجاورة لطاولاتهم ويراقبوهن وهن يتراكضن خلف أطفالهم في المولات الفارهة. هي سلسلة من التصرفات والكلمات ترمي في النهاية لتبهيت الآخر وتحويله إلى دمية بلاستيكية، متشابهة الشكل والفحوى والخلفية، سلسلة دميمة صدئة، أقنع الناس أنفسهم بطبيعيتها، بل وأحياناً بأخلاقيتها. نحن كائنات عجيبة فعلاً.
هؤلاء بعنصرياتهم «الصغيرة البسيطة» أخطر من العنصريين الكبار. هؤلاء يحفرون الطريق للمجرمين العنصريين القادمين. هؤلاء يطبعون الخطأ ويؤقلمون محيطهم مع الأوضاع الإنسانية الشاذة. هؤلاء مساكين وخطرون في آن. هؤلاء هم القضية الأصعب وهم قضية الإصلاح الإنساني الأهم. المعضلة أنه لا وقت لدى البشرية للتعامل التدريجي مع هذه النوعية من العنصريات الصغيرة المتناثرة، الأخطار المهيبة على الأبواب، والعنف يتواردنا من كل الشبابيك، والمصيبة أن «العنصريين الصغار» هم أول من يفتحون الأبواب ويشرعون الشبابيك.