تلح علي شرقيتي بأفكارها القديمة فتحرجني، تجعل من نقد بلدي في صحف غير صحفها ضربا من عدم الولاء رغم قناعتي التامة أن وطني بتعلقي النفسي به يختلف عن الدولة المؤسسة التي هي إدارة كبيرة تستوجب النقد العلني المستمر.
يناقشني ابني البكر كثيراً في مفهوم الولاء والتعلق بالوطن، يسألني، أليس هذا الشعور الوطني الحديث، الذي تشكل بعد الحربين العالميتين وبعد صنع قالب الدولة المدنية، هو شعور يرمي لتكثيف التفرقة بين البشر وتعزيز الكثير من العنصريات بنحت الحدود بين أفراد هذا الجنس الغريب؟ عقلي يوافقه تماماً وقلبي يذوب حباً في هذه البقعة الساخنة جداً من الأرض، تراها برمجة مؤسساتية فعلاً أم شعور إنساني حقيقي خالص؟
ما وددت قوله من هذه المقدمة الطويلة أنني أشعر بالذنب للنقد العلني، وأشعر بالواجب أن أؤديه وأمعن في تقديمه. شيء ما تغير في روح الكويت، في جوها، أصبح “مودها” طارداً لضيوفها، وأصبح أسلوبها قاسياً متعنتاً معهم. والحديث يطول حول أسباب تطور هذه المشاعر وحول الحلول المستوجبة التي يفترض أن تكون معقولة وعادلة وإنسانية وغير ناكرة للجميل، وهذا موضوع مقال آخر، أما ها هنا اليوم، فالحديث حول المصاب العظيم الذي أصاب الكثير من النفوس الكويتية وانعكس على قراراتها الحكومية، وتركنا في ذيل قوائم الدول المريحة للأجانب العاملين فيها.
لي فترة أقود سيارة بسيطة جداً كنا قد اشتريناها لسائق المنزل، السائق غادر وسيارتي التي كنت أمتلكها قد تضعضعت إثر حوادث متفرقة، آخرها حادث تصادم لسيدة دخلت عكس السير، إلا أن قوانين المرور في الكويت أطلقت هذه السيدة بسيارتها القاتلة الآن في الشوارع لحين البت في القضية بعد سنة أو أكثر من وقوعها، وهذا كذلك موضوع آخر، المهم أنني الآن أقود سيارة صغيرة تحمل اسماً غير مألوف، متواضعة الشكل والقيمة، لطيفة وغريبة الحركة في آن. أنا سعيدة بالسيارة، لا أخشى عليها من شوارع الكويت المتكسرة، وهذا موضوع ثالث آخر، لا تكلفني الكثير لصيانها أو من حيث قيمة الوقود، هي سيارة لطيفة صغيرة طيعة، يمكن ركنها في أي زاوية صغيرة بلا تعب أو قلق.
لكن هذه السيارة قدمت لي درساً عملياً، تجربة حية، أعرفها تماماً، شهدتها مرات عدة، ولكن خوضها قصة أخرى. ساءت معاملة الناس لي ولسيارتي بنسبة 70% عن السابق، أقل القليل الذين يسمحون لسيارتي بالمرور أمامهم وأقل منهم الذين يحترمون أولويتي في الشارع أو حتى سلامتي داخل سيارتي، فلا يتورعون عن الالتفاف بشكل خطر علي، أو إلقاء نظرات شزر باتجاهي أو حتى الصراخ بشيء ما أحاول ألا أسمعه من خلال زجاج سياراتنا.
رفع هذا الأسلوب في التعامل من نسبة غضبي، فأصبحت أدفع بسيارتي الصغيرة أمام الآخرين رغم أنني “كنت” حساسة جداً في القيادة وأتعامل مع السيارات الأخرى كما أتعامل مع البشر، أفسح الطريق وأحترم الأولوية وأخجل من التدافع. أصبحت اليوم “دفشة” القيادة، غاضبة النظرات، لأعود لبيتي بعد انقضاء مشاويري منهكة حزينة. سيارتي تقول إنني أجنبية، لست كويتية، لا أعتقد أن الموضوع يحتاج لقول المزيد.
نعرة أبوية شوفينية، لها حس خليجي متعالي، وليعذرني أهل إقليمي على صراحتي، هي عنوان التعامل اليومي مع أجانب منطقتنا، وبلا شك خصوصاً في الكويت، حيث ارتفعت نسبة العداء النفسي والاجتماعي ومعهما نسب التنكيل القراراتي والعملي والقانوني تجاههم، لتصبح الكويت بيئة غير آمنة، غير مريحة، بعد أن كانت مأوى لضيوفها ومضرب مثل في التعاون بين الجميع في بنائها.
نعم لدينا مشاكل ديموغرافية، ونعم هناك خلل في النسب السكانية، إلا أن المشكلة عندنا وليست عند ضيوفنا، والحل يبدأ بتعديل أنفسنا لا بالتنكيل بهم وإهانتهم وتسفيرهم لأهون الأسباب. إذا أوصلنا الأمور لحد تنفير مقيمينا تماماً، سيأتي اليوم الذي تحدث فيه هجرات جماعية من الكويت، والتي لها ملامحها الواضحة من الآن، وساعتها سنقع في مأزق خطير، ليس فقط من حيث تعطل الأعمال التي ستتعلق بغياب مؤديها، ولكن من حيث تغير نفوسنا وأرواحنا نحن الكويتيين، ومن حيث توحش مزاجنا الذي سيعزلنا شيئا فشيئا عن العالم، ويكفينا على أنفسنا في صورة مؤذية خطيرة.
أحب الكويت لذلك أعلنها بكل صراحة، نحن نحتاج لبرامج تأهيلية لإعادة الثقة والود بيننا وبين ضيوفنا، ولمعالجة القسوة التي نمت عن خوف شديد بسبب تجارب كويتية سابقة، تجارب دفعت بنا للعودة إلى أفكار غابرة عن أصالة الدم ووحدة النسيج، وهي أفكار عنيفة نفسياً وفعلياً، تقود إلى تصرفات لا تحمد عقباها.
لقد أصبحنا نافرين حتى ممن هم جزء رئيسي من مجتمعنا، عديمي الجنسية الكويتيين الذين يعيشون على أرضنا المشتركة منذ بداية تأسيس الدولة، لتزداد قراراتنا وإجراءاتنا تعنتاً وعنفاً تجاههم حتى توقفت الحياة فعلياً وأُغلقت الأبواب تماماً في وجه فئة كانت المكون الرئيسي ذات يوم للجيش الكويتي وللحراسات الخاصة، فارتفعت نسب الانتحار بينهم ووصلت حيواتهم إلى طرق مسدودة.
واليوم مقيمونا يعانون الأمرين من “المود” الكويتي والقرارات الحكومية التي تبدو كلها وكأنها تتعمد إيقاع الأذى للدفع بالناس لترك حالهم وحيواتهم والنفاذ بكراماتهم خارج البلد.
ربما لا تتفرد الكويت بهذا الحال في الخليج، نعرف ذلك تماماً، موضوع انعدام الجنسية مثلاً موضوع معاناة في كل دول الخليج تقريباً، ولكن الأزمة على أشدها وبوضوح في الكويت، وهذا ما لا نرضاه لها ولا للبشر على أرضها. نحن أفضل من ذلك، يجب أن نكون أفضل من ذلك.