ليست الحالة التي تمر بها الكويت غريبة لا على التاريخ الكويتي بحد ذاته ولا على تاريخ الانتفاضات الأممية في تاريخ العالم أجمع. مهما صغرت أو كبرت الانتفاضة، مهما تنوع حجمها أو أسلوبها أو توجهها، فعادة ما تقابل هذه التحركات بالتخوين أولاً وقبل كل شيء، فتصور السلطات المطالب البسيطة على أنها محاولات انقلاب قميئة يراد بها تغيير سيطول استقرار الأمة، وهذا الاستقرار عادة ما يعرف من الجانب الاقتصادي ويصاغ به. لذا، يسهل قبول مثل هذه الانتفاضات وتفهمها إذا ما جاءت في دول تعاني اقتصادياً، أما في الدول الأكثر راحة اقتصادية، فإن تفهم الانتفاضة يتطلب تفهماً عميقاً لمنطق المواطنة والحقوق الإنسانية ولقاعدة حكم الأمة لنفسها. فالإنسان، رغم كل التطور العقلي والعلمي والفكري الذي طاله، لا تزال بدائيته تقفز على وجه تصرفاته لتظهر نفسها أقوى من آلاف السنين التي عملت صياغة وتعديلاً وتهذيباً في الفكر البشري، فلا تزال القوة الجسدية مثلاً حكماً في الكثير من المواقف، حتى إن الكثيرين يستخدمون هذا المنطق في الحوار الدائر حول القيمة البشرية للرجل والمرأة. كما لا تزال مخاوف الإنسان من كل ما لا يعرف أو يرى تدفع به لتفسير هذه المخاوف تفسيرات ما وراء طبيعية، فيصبح الصوت الغريب في المنزل روحاً سابحة، ومرض الانفصام تلبس جن وعاصفة هوجاء غضباً من الرب. وكذا يقرأ الإنسان أي حراك لأخيه الإنسان، فإذا ما توافرت لقمته وسقف فوق رأسه وآلة تنقله وفائض يتسوق به، فهو محظوظ يجب أن يقبل يديه عن ظهر قلب ويقبل السلطة عن جبهة ويد، ففي الفكر البدائي القديم، هذا كان كل ما يتطلع إليه الإنسان، وذاك غاية أمله ومبتغاه.
تقول إحدى قصص التاريخ إنه ومن بدايات القرن السابع عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، أغلقت السلطات الإمبراطورية اليابانية كل اليابان على مواطنيها، فلم تسمح لأحد بالخروج ولم تسمح “للغرباء” بالدخول. كانت اليابان تخاف من محاولات الغزو المستمرة لأراضيها، كما وتخاف على شعبها من التأثر بحراك العالم الخارجي، فأغلقت عليه بالضبة والمفتاح. عانت اليابان كثيراً هذا الانعزال التام فتخلفت علمياً كثيراً في هذه السنوات حتى ليقال إنه عندما فتحت اليابان موانئها لأول مرة سامحة لسفن أوروبا البخارية بالرسو عليها، فزع اليابانيون تماماً وهو يرون هذه السحابات الدخانية الضخمة تقترب من شواطئهم معتقدين أنها وحوش ضارية. لم يعد ممكناً اليوم إغلاق حدود الدولة على أبنائها لمنعهم من التطلع إلى الأنماط السياسية المتطورة في دول العالم المتقدم، لم تعد الشعوب تخشى الوحوش البخارية الضخمة القادمة لتأكلها. لقد وصلت البشرية إلى هذه المرحلة من الزمن حيث لم يعد إخفاء الحقائق أو تخويف الناس أو تقليص التطلعات أو تحجيم الأدوار ممكناً.
فما الذي يمكن أن يأتيه الشارع الناضج؟ ما المطلوب من الحركات والأحزاب الليبرالية الهوى، التي من المفترض أن تكون المعنية بالدرجة الأولى بمفاهيم المشاركة الشعبية في السلطة والحريات والانفتاح التام أمام الانتفاضات المجتمعة، لتحمي الحراك، اتفقت أو اختلفت مع أسلوبه، من أن يُسرق ويجير؟ هنا يأتي دورها لتوفر راية يتحرك بقيادتها الشباب، سبيلاً واضحاً نيراً لا يعانون في مسيرهم عليه التنازع بين مبائدهم وبين غايات البعض ومصالحهم الشريرة، مسار رشيق معبد بالمفاهيم العصرية للحريات والمواطنة الحقة والكرامة الإنسانية. الموضوع يحتاج مساهمة حقيقية فاعلة لكل من يؤمن بحق الشعوب في تقرير مصيرها، مساهمة لا تتوقف عند حجة “هذا حراك مجير، هؤلاء إخوان، هذا انقلاب على الحكم”، بل مساهمة حقيقية لتوجيه هذا الحراك على مسار منظم دستوري شعبوي، تختفي في دروبه الفئوية، وتتحد على أرضه المطالب الشعبية التي طال أمد المطالبة بها، والتي لا تتوقف عند موضوع المرسوم الأميري الذي لا يعدو عن أنه رمزٌ لها وقشة أخيرة قصمت ظهر أمدها الطويل.
اليوم هي فرصة الحركات والتجمعات والأفراد ذوي التوجه الليبرالي الديمقراطي الحقيقي، خاصة هؤلاء المتخوفين من اختطاف الحراك من الجماعات الإسلامية، أن يوفروا راية ويتلمسوا الشارع ويهبطوا للدروب الحقيقية، اليوم عليهم أن يشاركوا بالعمل والتوجيه، بخبراتهم ونتائج تجاربهم، والأهم بأموالهم، فلكي ينجح الحراك الفكري في المجتمع وليتحول الى حراك شعبوي تنطوي أسفل رايته الشعوب، فعليه أن يعمل جيداً ويمول جيداً، وبلا هذين فإنه يترك الشارع بشبابه لقمة سائغة للأعداء الذين يُهابون.
اليوم يوم توحد كلمتكم وتواصل عملكم وتأثير أموالكم، التغيير الحق يبدأ بفكرة ذكية وتنفيذ منظم وتمويل سخي، فافعلوا تأمنوا مستقبل الأبناء ضد حكومة يرتع فيها الكسل والفساد، ومعارضة يرتع فيها التطرف والفئوية. هذا هو السبيل الوحيد، فلنفعل قبل أن توضع على مداخل هذا السبيل القواطع الحديدية، وما أكثرها في شوارعنا هذه الأيام.