ليس هذا مقالاً مهماً سوى لي وحدي، ليس فيه اسم نائب ولا سيرة ثورة ولا تلميح لمسؤول ولا شماتة بشأن اتفاقية ولا استماتة من أجل حرية، ومن شرفني بقراءة بعض كتاباتي في السابق يعلم أنني بين وقت وآخر لا بد لي من مقال علاجي، أكتب فيه عن بيتي وأحبتي وحياتي بعيداً عن السياسة والحياة العامة، أكتب فيه روحي وأجد في كلماته نفسي التي كثيراً ما تضيع بين شدّ وجذب، المقال المنشور وتغريد “تويتر” المنثور وإنستغرام الصور الذي أصبح هذه الأيام هو المأثور.
يوم الجمعة الماضي، والذي تصادف وطقساً بديعاً جعل نهاره كله ربيعاً، تجمع شباب الكويت وشاباتها في “المارينا كريسنت”، يعرضون مصنوعاتهم الجميلة ويستعرضون مواهبهم وقدراتهم الإبداعية. ازدحم المكان بالصبا والجمال، تدفق الشباب والشابات بحماستهم، فقدموا لنا يوماً مغموساً بالفن حتى “لوزه”، يوماً سقى أرواحنا الجافة ووعدنا بمستقبل أروع مع هذه الطاقات الإبداعية العاشقة للفن.
كلهم جميلون هؤلاء الشباب والشابات، إلا أن أحدهم خطف قلبي، أتابعه عن بعد وهو يتنقل بحماسة بين صحبه، يقرأ في أوراق ويتفقد الأجهزة ويفرك يديه كما يبدو ليعدهما لدوره القادم. شاب وسيم فارع الطول، خجول قليل الحديث، ذكي حاد الملاحظة، من أجله أستدير عن الدنيا وأعطيها ظهري، وكرمى سعادته ترخص حياتي. كل خطوة يخطوها، كل لفتة يلتفتها تبدو لي لحظة أمل، أود أن ألتقطها بكاميرتي، أخزنها في ذاكرتي، أغمض حياتي عليها فلا يبقى معي في قبري بعد الرحيل سواها أتسلى بها.
هذا الفتى الذي يضحك بحساب ويتكلم بحساب، رأيته اليوم بين صحبه يعزف في فرقته الموسيقية على الطبل أو “الدرمز” يشتعل حماسة ويبتهج ابتساماً، كلما صرخت ملوحة له لألفت نظره، التفت لي بابتسامة تفتت الصخر، ليعاود التركيز في آلته، يشعلها قرعاً ويضبطها إيقاعاً لتوازي الآلات والأصوات الأخرى في فرقته. ساعتين وأنا متسمرة أنظر إلى الفتى، أغني معه، أضم أباه الواقف بجانبي إلى قلبي غير عابئة بمن حولي. ساعتين وأنا أتساءل: أين ذهب الوقت، وكيف كبر الفتى؟ كيف أصبح هذا الشاب في غفلة مني؟ ساعتين وأنا أحاول أن أخزن كل دقيقة من دقائقها، كل لوحة ارتسمت خلالها، كل حركة ولفتة وضحكة صدرت منه إبانها. ساعتين لربما هما ذخيرة فرحتي لوقت قادم طويل.
إلا أن الختام أراق لي مسكاً ما كنت أتوقعه، ما إن انتهت الفرقة من عزفها وحيا الشباب جمهورهم، حتى مال الفتى الخجول وعلى غير توقع على ميكرفونه، وصرح بعلو صوته وبأجمل ضحكة على شفتيه “أحبك يا أمي”. رنت الكلمات فاستحالت المارينا كلها صامتة، لا أسمع سوى دقات قلبي ولا أرى سوى ضحكته الخجولة.
قليل فقليل، عادت الأصوات تخترق مسامعي والناس تظهر من حولي وهو ساكن في حضني لا يستطيع من قبضتي فكاكاً. ثواني كان كل نصيبي، بعدها كان لابد مما ليس منه بد، أفلتّه ومعه قلبي وروحي.
أبناؤنا وبناتنا، أبناء الحياة، أبناء القدر، لا نملك فيهم شيئاً وهم يملكون فينا كل شيء، لا بد أن نفلتهم ولا يفلتون هم قلوبنا أبداً، لا بد أن نحررهم ولا يحرروننا هم من قلقنا مطلقاً، أرواحنا هم وقلوبنا تمشي على الأرض، وما كانت في يوم الروح سعيدة بحبسها ولا القلب نابضا في سجنه، دعوهم يجدوا طريقهم بأنفسهم، اسقوهم الفن والجمال، فبهما يستدلون على أطيب ما في الحياة وأجمله وأنبله، وادعوا لهم، وحوقلوا حولهم، فذاك غاية ما نملك وأقصى ما نستطيع.