لا يبدو للهياج العالمي المصاحب للمباريات الرياضية، وأكبرها وأكثر فعالياتها هيجاناً هي كرة القدم، أي قيمة حقيقية مضافة لحيواتنا تعادل تبعات هذا الهياج السياسية والاقتصادية، وتبرر أعمال العنف التي كثيراً ما تصاحبه وتخفف من أعراض التفرقة والتعنصر الناتجة عن تشجيع الفرق الرياضية الصانعة لهذا الهياج. ففي حين أنه لا يمكن إنكار أهمية الألعاب الرياضية بدنياً وصحياً من حيث نشرها للتوعية الصحية بالطبع، ثم سياسياً تمثيلاً للدول المدنية، ثم قومياً تشجيعاً لمشاعر الانتماء وتوحيداً لصفوف الشعب الذي قد يفرقه الكثير ويجمعه فريق كرة قدم، ثم اقتصادياً من حيث تشغيلها للأموال وتدويرها للوظائف، ثم ترفيهياً من حيث توفيرها لمتعة كبيرة ومهمة بدنية وعقلية للبشر، إلا أن في كل مجال من مجالات الفائدة هذه يوجد ضرر مواز لها بالقوة ومضاد لها بالاتجاه. فكم من خلافات سياسية، وصولاً لقيام معارك مفزعة، وقعت بين الدول بسبب مباراة كرة قدم، وكم من عنصريات ترسخت ليس فقط بين أبناء الشعوب المختلفة ولكن كذلك بين أبناء الشعب الواحد بسبب التشجيع «التعبدي» لهذا الفريق الرياضي أو ذاك، وكم من أموال أُهدرت في صنع مظاهر رياضية وفي التنافس على شراء اللاعبين، حتى بلغت الأجور مبلغاً خيالياً يصنع مليارديرات من شباب صغار ويترك الملايين من البشر تحت خط الفقر والعوز.
غير أن أحد أهم إيجابيات اللعبة، التي ظهرت بوضوح هذه السنة، هو الإتيان بثقافة خاصة للعالم أجمع ليتعرف إليها ويعايشها ويفهم طبيعتها. ولأول مرة في العصر الحديث نرى الثقافة العربية، طعاماً وموسيقى ولغة ومظهراً، تتصدر العناوين العالمية، لأول مرة يتعرف الغرب عن قرب إلى هذه الثقافة الخاصة الجميلة، ولأول مرة يواجه الغرب عنصرياته بوضوح من خلال مواقفه المتناقضة تجاه الخصوصية الثقافية للشرق ومن خلال «غيرته» المسكينة التي سيطرت على كثير من ردود الفعل الغربية تجاه هذا الانتشار الثقافي العربي. فبعد تجاوزالمحاولة الرثة لفرض الثقافة الغربية على الداخل الخليجي والتي تصدى لها القطريون بشكل راقٍ حقيقة من حيث ترحيبهم بكل من يزور قطر وإصرارهم المسالم الراقي على عدم التفاعل مع القضايا الخارجة عن ثقافتهم (رغم تحفظاتي الإنسانية بالتأكيد) ثم تصديهم لأي محاولة فرض ثقافة خارجية من خلال الرد بقضاياهم الملحة، مثل لبسهم لشارات الدفاع عن القضية الفلسطينية في مقابل شارات الدفاع عن التعددية الجندرية التي يجدونها غير موائمة للثقافة الداخلية، أقول بعد هذا التعامل المقبول، أظهر الغرب غيرة وعنصرية غير لائقين بالشعارات الحضارية التي يرفعها باستمرار، وذلك من خلال رد الفعل على «بشت» ميسي الذي كرمته قطر بوضعه على كتفيه احتفالاً بانتصار فريقه. لقد ظهر وجه رث مسكين للحضارة الغربية «الرائقة»، وبدا أنها في النهاية لا تتعدى، رغم خطواتها الواسعة باتجاه المستقبل وإنجازاتها الإنسانية القيمة، كونها حضارة بشرية لكائنات ناقصة مسكينة، تغار وتتعنصر وتهبط بغيرتها، مثلها مثل غيرها، حداً مثيراً للشفقة.
لقد قدمت قطر درساً ثقافياً ووجهاً حضارياً وخدمة متقدمة للعالم كله ليتبصر فيها ويعيد من خلالها ليس فقط فهمه لطبيعة الشرق، ولكن كذلك تقييمه لحضارته الغربية هو بحد ذاته، ولأفكاره وعنصرياته وتمييزاته التي تأكل من وجهه وتضعه في مواقف مخجلة في تناقضها. لقد عاش الناس على مدى أسابيع الثقافة العربية بتفاصيلها، أكلوا أكلاً عربياً ورقصوا على الموسيقى العربية، وتكلموا اللغة العربية تكسيراً و«عجمنة» واقتربوا من الفكر العربي المحافظ، الذي بالرغم من حاجته الملحة لمواكبة المسيرة الحضارية للعالم وخصوصاً في المجال الحقوقي، فإن له خصوصية رائقة يمكن تفعيلها بسلام ويمكن دمجها مع العالم بسهولة ويسر. ثم انتهى كل ذلك بالبشت على أكتاف ميسي، هذا البشت الذي تفاعل معه بعض الإعلام الغربي، وخصوصاً بعض الألماني، بهبوط ورثاثة، والذي خدم ليس فقط في إيصال ثقافة مختلفة للعالم أجمع، ولكن كذلك في كشف نقاط ضعف خطيرة في الثقافة المتسيدة والتي تحصلت على المركز الأول حضارياً مع وجود ثغرات خطيرة في جسدها.
ورغم كل ذلك، رغم كل هذه الإيجابيات للفعاليات الرياضية، فإن توهان الناس في دروب الانفعال من أجل فرقهم وتخدرهم بحب ومساندة غير مشروطين لهذه الفرق التي لا يعرفهم أصحابها ولا رابط حقيقياً لهم بها وتعنصرهم لهذه الفرق على حساب علاقاتهم الشخصية والشعبية والدولية كبشر بعضهم لبعض، هي كلها آثار خطيرة لمزايدات البشر ومبالغتهم في «عبادة» كيانات هم صنعوها، صنعوها باهتمامهم وأموالهم، ليذهب خيرها للأغنياء وليبقى الصانعون مجرد عاملين دائرين في مصنع الأموال الضخم هذا. ففيما مونديال قطر الفخم تتوالى أيامه المخملية، تتوالى كذلك أيام الناس العسرة في أنحاء مختلفة من العالم غطى على أخبارها وأهميتها هدف للأرجنتين هنا أو انتصار للمغرب هناك. أصدرت «طالبان» مؤخراً قراراً بمنع النساء من الالتحاق بالجامعات، وهو قرار كان مسبوقاً بقرار إغلاق المدارس الثانوية للبنات، والذي سيكون ملحوقاً على ما يبدو بقرار عزل النساء عموماً ولربما إبادتهم قاطبة. تطايرت هذه الأخبار المفزعة كما خيط البخور في السماء الفسيحة، لم يشعر بها العالم ولم يتفاعل معها بانشغاله بأضواء المونديال البازغة تملأ السماء، وما سيفعل خيط بخور وسط كل هذه الأضواء؟
لست بالتأكيد ضد متع الحياة ومرفهاتها، يعلم الله أننا نحتاجها أكثر من غيرها في عالمنا القاتم المسكين، لكن متع الحياة تلك حين تنقلب إلى مصادر تفرقة وتعنصر، فوق المصادر الغريزية الملازمة لنا، تصبح إعاقة مضافة، وكأنها نظارة قاتمة نضعها على أعيننا تزيد من ضبابية رؤيتنا للمشكلات البشرية الملحة. لربما هذا هو المقصد من هذا الترفيه «الحاد» المتعنصر، لربما هذا التتويه عن مشكلاتنا الإنسانية هو أحد أهداف تشكيل هذه المتعة التغييبية بهذه الدرجة من الضجة والإثارة. انتهى المونديال ولبس ميسي البشت، ماذا الآن عن نساء أفغانستان؟