تتنامى معضلة التعليم في عالمنا العربي إلى درجات خطرة بسبب غياب مهارة التفكير النقدي بل ومحاربة هذه المهارة في الكثير من الأحيان. يعتمد التعليم في عالمنا العربي، في معظمه، على التلقين الذي ينبع من الأنظمة الأبوية السائدة التي تقوم على ثنائية الأمر والطاعة، والتي لا تتيح الكثير من الفرص للإبداع واستعمال الخيال والخروج عن المألوف. كما أن تدريس مقررات التربية الدينية في الأغلبية العظمى من دولنا العربية يقوم على فكرة تقديم الحقائق المطلقة غير القابلة للمناقشة أو النقد، وهي بحد ذاتها إشكالية معقدة تضاف للأسلوب التلقيني الأبوي المدرسي وتعمق آثاره.
يفترض أن المدرسة مؤسسة تعليمية تقوم منهجيتها على التفكير النقدي؛ فهي تقدم مواد رياضية وعلمية تستوجب الحث على التفكير والشك والمناقشة، بل يفترض أن الهدف التعليمي في النهاية يرمي إلى وصول الطالب إلى القدرة على التشكك ورفض المعلومة إن احتاج لذلك من أجل الوصول إلى ما هو أفضل وأكثر تطورا منها. هكذا تم خلق العلماء الغربيين، الذين تلقوا علوما في مدارسهم كانت قابلة للتشكك والمناقشة والتقييم العلمي والشخصي.
وحين تقدم المدرسة، إلى جانب المواد العلمية القائمة على التساؤل والشك، مواد عقائدية قائمة على الحقائق المطلقة والتصديق غير القابل للنقاش أو التساؤل، يتم خلق بيئة متناقضة في المدرسة. فما بين الانتقال من فصل إلى آخر، لن يكون في مقدرة الطالب أو الطالبة تغيير الأسلوب العقلي أو المنهجية الفكرية من طائعة لحقائق مطلقة غير قابلة للنقاش إلى متشككة في الحقائق العلمية في محاولة لتطويرها وتغييرها.
لا أثر أسوأ من أن تقدم المدرسة، التي يفترض أنها تقدم مواد علمية كلها قابلة للتغيير والتطوير والنقاش، مادة عقائدية مطلقة لا تنطبق عليها شروط المادة العلمية المذكورة. وعليه، فإن الحل في رأيي ينحصر في واحد من اثنين: إما أن تقدم المادة العقائدية في المدرسة على أنها مادة قابلة للمناقشة والتطوير والتشكك والتساؤل؛ وهذا حل سيكون له آثار شديدة التعقيد في وقتنا الحالي وينطوي على إعلاء لعقيدة معينة دون غيرها، أو أن يتم تقديم مقررات تعريفية بالأديان عامة، تاريخيا ومعلوماتيا، وهو الاختيار الذي يبدو أنه أفضل وأكثر فاعلية؛ ويتم تقديم المادة على أنها معلومات لا مسلمات، وعلى أنها تهدف لتعريف التلاميذ بالأديان، معظم الأديان في العالم، في محاول نافعة لتسهيل التواصل الحضاري بين الشعوب.
أحد أقوى أوجه القصور المعرفي عندنا هو ذاك الذي نحمل تجاه الأديان المختلفة، حيث كثيرا ما يتم تداول خرافات وكليشيهات حول الأديان الأخرى يثبتها قصور في الاطلاع وكسل في التحقق من المعلومة، مما يخلق غربة بين الشرق أوسطيين وبقية العالم ويصنع مخاوف راسخة في نفسياتهم تجاه الآخرين المختلفين عن دينهم.
لذا فإن تقديم مناهج تعريفية بالأديان الرئيسية المختلفة حول العالم سيكون له أكبر الأثر في فتح باب التبادل الثقافي وتخفيف حدة الاحتقان الديني والمخاوف الثيولوجية بيننا وبين شعوب العالم. وسيصلح تقديم هذه المادة الكثير من المعلومات المغلوطة المتداولة، كما ذكرت أعلاه، والتي تنم عن جهل عميق في زمن لم يعد هذا الجهل فيه مبررا، مثل تكرار أن البوذيين يعبدون بوذا والهنود يعبدون الأبقار والإيرانيين يعبدون النار دون فهم حقيقي لفلسفة العبادة والفكرة من المعبود، إلى آخر الكليشيهات العدائية التي صنعها رجال الدين عندنا ليخلقوا عداء مزمنا بين شعوبنا والشعوب الدينية الأخرى المختلفة، لنبقى من خلال هذا العداء مشغولين بغضبنا محبوسين في جهالتنا.
كما أن تقديم مادة دينية تعريفية سيخفف حدة التغييب التام عندنا للبعض من أهم الأديان الفلسفية مثل الكنفوشية والبوذية والتاوية وغيرها، التي سيجد معها أصحاب الأديان الحديثة (اليهودية والمسيحية والإسلام) الكثير من نقاط الود والالتقاء.
في الدولة المدنية العلمانية، لا تأخذ المدرسة الحكومية طرفا ضد آخر، ولا تدرس عقيدة على حساب العقائد الأخرى. فأحد أهم صور العدل بين المواطنين هو عدم الانحياز الأيديولوجي، أي ألا تظهر الدولة أي تفضيل ديني لأي من فئات شعبها خصوصا في مجال التعليم.
إلا أن هذا لا ينفي واجب الدولة العلمانية في حماية حرية التعليم الديني؛ وعليه فمن يرغب في تأسيس مدرسة دينية خاصة له ذلك، ومن يرغب في إدراج أبنائه فيها فحريته مكفولة كذلك.
في الولايات المتحدة مثلا، أبناء معظم الفئات الاجتماعية تذهب صباحا للمدارس الحكومية ثم تذهب عصرا مرة أو أكثر في الأسبوع لمدارس دينية خاصة يتعلم فيها الأطفال عقائدهم وأديانهم كل حسب اختياره. بهذه الصورة تضمن الدولة حيادها تجاه مواطنيها بعدم إعلاء عقيدة على ما عداها في الدولة تعليميا أو اجتماعيا، وفي ذات الوقت تضمن حق هؤلاء المواطنين والمقيمين (بالطبع) في تلقي التعليم الديني الذي يرومون.
بقينا لسنوات نتساءل كيف ومتى ظهر تنظيم “داعش”! وكعادتنا قلنا مؤامرة صهيونية، وتدخل غربي، وخطة فارسية؛ قلنا كل شيء، ولمنا كل طرف، عدا قول الحق ولوم الطرف المستحق.
هل راجعنا المادة الدينية المقدمة لأبنائنا في المدارس والقائمة على كراهية اليهود و”النصارى” والدعاء عليهم في كل حين وتمني اليتم لأبنائهم وتشبيههم بالقردة والخنازير وتحريم الود بيننا وبينهم؟ دع عنك ما يقدم طبعا حول بقية الأديان غير السماوية؟ هل تفكرنا في أثر التلقين المطلق وتحريم التفكير والنقد على العقول الناتجة؟ هل ربطنا بين تصلب وعناد ومرضية العقل “الداعشي” وطبيعة المادة التي تم تلقينها في المدارس وطريقة تقديمها؟ قبل أن نلوم الآخرين، علينا أن ننظر لأنفسنا ونحارب نزعاتنا ونتوب عن خطايانا قبل أن نصل الى نقطة اللاعودة المرعبة.