مواجهة

مدهش كم نلفّ وندور نحن حول الموضوع حتى نتفادى المشكلة المزروعة في منتصف دائرتنا، فما بين دفاع عن الإسلام والمسلمين وما بين لوم على السياسات الخارجية، وما بين عتب على السكوت عن حوادث أخرى حدثت للمسلمين بحد ذاتهم تضيع المواجهة الحقيقية مع البحث الجاد عن الكارثة المتجذرة التي تطرح جثثاً ودماء كل يوم.

نحن نستمع إلى خطابات كراهية من شيوخ الدين في التلفزيونات وعلى المنابر وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، نحن نقرأ كتباً مليئة بالعنف والتعاليم المنغمسة في القتل والجنس، نحن ندرس أبناءنا مناهج مبنية على أفضليتنا على العالمين، مناهج تعزلنا وتشجع عداءنا للمختلف، مناهج تحكي عن اليهود بكراهية وعن “النصارى” بخشية، مناهج تعلم الأبناء عن ملك اليمين ونقص المرأة وطبائع وعادات الجن، مناهج لا تضع الأديان فقط ولكن حتى مذاهب الدين الإسلامي الواحد في مواجهة بعضها بعضا، وبعد كل ذلك نتساءل: كيف بزغ بيننا من هو قادر على القتل بدم بارد، كما فعل إرهابيو باريس في هجومهم على صحيفة شارلي إيبدو مردين اثني عشر قتيلاً، بسبب كاريكاتير أو مقال أو كتاب؟

من يوم الحادث امتلأ “تويتر” بصراخ عربي إسلامي ليس شجباً واستهجاناً بقدر ما هو دفاع عن الإسلام والمسلمين، “ليس ما حدث من الإسلام في شيء، ليس الفاعلون سوى قلة قليلة معزولة”، ذات الجمل تتردد بسماجة ليس لها طعم ولا فاعلية. كل الأديان في عمقها تدعو للسلام والمحبة والتسامح، إنما الدين ابن زمنه والقائمين عليه، وما صنع مسلمو اليوم سوى أن حولوا دينهم إلى سلاح يستبيحون به دماء الآخرين، تلك هي الحقيقة التي يجب أن نواجهها. لقد قرأ مسلمو اليوم دينهم قراءة عنيفة لم تفتح المجال للمتطرف فقط ولكن حتى للغر الصغير الغاضب أن ينفس بعنف انتقاماً لنفسه قبل دينه، وعوضاً عن تأكيد تعاليم المحبة والسلام المزروعة في التعاليم الإسلامية، نقب رجالات الدين عما يستطيعون به تجنيد الصغار وغسل عقولهم لإنتاج آلة القتل الجبارة تلك. ها هو “داعش” يتمثل حصاداً لزرعنا المرير، وها هو التأييد المعلن له ومن قبله لـ”القاعدة”، يؤكدان أن العنف أصبح من “قيمنا” وأن القتل واستباحة دماء المختلف والمخالف والمنتقد أصبحت من “عاداتنا وتقاليدنا”، وإلى أن نغير فهمنا للدين وقراءتنا واستنتاجنا لتعاليمه، إلى أن نضع أحداثه في نصابها التاريخي مؤكدين التعاليم الأخلاقية الواردة فيه، سنبقى، كدول عربية وإسلامية وخليجية تحديداً، المصدر الأول للإرهاب في العالم، العالم الذي لن يسكت طويلاً ولن ينتظر مجدداً.

لكي نثبت للعالم أن الإسلام دين سلام، وأن المسلمين أهل سلم ومحبة، علينا أن نكون فعلياً ما نقول، علينا أن نعيش ما ندّعي، فأن تقول “الإسلام دين محبة وسلام ومن يقول بغير ذلك أرديه قتيلاً”، فأنت تثبت عكس ما تدعي بفكاهة دموية مريضة. الدين دين سلام عندما يكون أصحابه مسالمين، يقرؤون تعاليمه بنظرة تقدمية متحضرة متعايشة مع الآخر، الدين نتاج الخلاصة الفكرية لأصحابه، هم من يفسرونه ويطبقونه، وفي هذا وذاك نحن فشلنا فشلاً ذريعاً. استهانة بدماء الضحايا واستعلاء أمام قبح الجريمة أن تدير ظهرك للضحية وتبرر للجاني وترمي بجرمه على كل شيء من حوله عدا السبب الرئيسي الأول، ما تشربه بين ظهرانينا وما تعلمه من رجالات ديننا، وما اشتاقه من وعود وعدته بها الكتب والخطب والمناهج الدراسية، حور عين تعوضه كل أسى الدنيا وعنفها.

المشكلة عندنا، فبحق جلال الموت، وعدمية الحياة، وكارثية المأساة، لنواجه مرة واحدة الحقيقة بشجاعة، لنتحمل مرة واحدة المسؤولية حتى نتمكن من تحقيق شيء من السلام. كلنا مسؤولون عما وقع ويقع: من فعل ومن سكت عن الفعلة، ومن قرأ درس الدين أو سمع الخطبة أو قرأ الكتاب، فعاند عقله واستسلم لمن يقوده خوفاً من الوقوع في الخطأ مؤثراً تمرير اللامنطق على تحمل المسؤولية واستخدام العقل، كلنا مسؤولون وكلنا نتحمل النتائج الوخيمة اليوم.

“آخر شي”:

لربما نحن مسؤولون كذلك عن الصورة القميئة لمظاهرة السلام الصامتة في باريس الاثنين الماضي، والتي تقدمها نتنياهو، نتنياهو في مظاهرة ضد الإرهاب؟ لربما في العرف الغربي يمشي الحال، ولكن ما يفعله بعض الحكام العرب متشابكي الأيادي في سلسلة صف يربطهم به؟ ما يفعلونه مصطفين مع جزار أهلهم وأرضهم في مظاهرة ضد الدماء. نحن مسؤولون لأننا صامتون، دوماً صامتون.