أكتب هذا المقال بعد الانتهاء من الموسم الثالث لمسلسل The Handmaid’s Tale أو (رواية الخادمة)، حيث أخذ المسلسل عن رواية تحمل الاسم ذاته للكاتبة الكندية مارجريت آتوود. يدور المسلسل حول قصة الخادمة أو بالأصح «الأَمَة» (جون) التي يتحول اسمها إلى (أوفريد)، ويتم استعبادها واغتصابها من خلال نظام إمائي جديد يتم إنشاؤه في مقاطعة نيوإنجلاند الأمريكية بعد حدوث ثورة في المستقبل القريب على الحكومة الأمريكية وتحول المنطقة بأكملها إلى نظام ثيوقراطي مسيحي. لم أكن لأتخيل أن تصل الصعوبة إلى هذه الدرجة في متابعة أحداث أي عمل فني وفي تحليل معانيه وإسقاطاته. كل مشهد، وكل جملة، وكل تفرع من فروع القصة يشعل النار في الأطراف، ويضع المشاهدة والمشاهد في مواجهة حقيقية مع بشاعة ما كان وبشاعة ما يمكن أن يكون. يستعرض المسلسل أثر النظام الثيوقراطي على الحياة عموما، وكيف أن هذا النظام سيقوم على جسد المرأة وكرامتها، إذ تحولت المرأة في المسلسل إلى أمة مستعبدة لا يتعدى دورها دور الوعاء المعد فقط لإنجاب الأطفال وإطفاء الشهوات.
تاريخ طويل من الأسى، من انتهاك الكرامة والجسد، عاشته بنات جنسنا وصولا إلى قرننا الحالي، وكأن كل هذه الانتهاكات والمعاناة والظلم والألم قد نُحتوا جينيا في خلايانا النسائية، حتى بتنا نحملها جميعا إرثا ضخما ثقيلا على أكتافنا أينما كنا ومتى كنا. في المعظم منه، لم يأت المسلسل بواقعة لم تحدث، ولم يَظهر أسى أو عنف أو انتهاك أو تحقير أو استعباد أو استغلال لم تتعرض له المرأة حقيقية على مدى التاريخ الإنساني وعلى أيادي الأنظمة الثيوقراطية قبل غيرها.
يمتلئ المسلسل بمشاهد العنف ضد النساء، ويبين كيف أن المرأة-حتى هذه التي ساهمت في إنجاح الثورة التي حولت المجتمع إلى الثيوقراطية-قد تهمشت وتحول دورها، في أفضل ظروف هذا المجتمع، إلى مساندة للرجل وراعية لمنزله. يظهر المسلسل كيف بهتت الحياة بعد الثورة، حتى المناظر أصبحت كئيبة والألوان قاتمة، فقسّمت النساء من خلال توحيد ألوان أزيائهن موحدة الشكل، لتلبس الإماء الأحمر، وتلبس زوجات الرجال المهمين الأخضر، وتلبس النساء العاديات الرمادي. تقوم الثورة في المسلسل بعد أن انخفض عدد الولادات إلى درجة مخيفة، ما دعا المتشددين للمطالبة بالعودة إلى النظام الديني وإعادة المرأة لدورها البيولوجي، تحديدا لإنجاب الأطفال، ليتحول المجتمع بأكمله حينئذ إلى مجتمع ديني محافظ، يقود فيه الرجال وتنحى فيه النساء إلى الدور الجسدي بكل ما يحمله هذا الدور من معنى.
إن استعراض هذا الدور يعيد أي مشاهدِة منا إلى تاريخ بنات جنسها، ولا يمكن لأي امرأة أن تشاهد هذا العمل الدرامي دون أن تطعنها سكاكين الذاكرة، ودون أن تنغرس في روحها خناجر الحقائق التي نود جميعنا أن نتناساها بعد أن باعد بين البعض منا وبينها الزمن نسبيا، ولا يمكن لامرأة أن تتنقل بين مشاهد هذا العمل دون الاعتراف بحقيقية أغلب أحداثه تاريخيا واستمرار الكثير من صورها إلى اليوم.
لننظر في تاريخنا الإنساني الطويل الذي تم استعراضه بقسوة من خلال أحداث المسلسل، استعباد في معظم المجتمعات الإنسانية، بما فيها مجتمعات الأديان الحديثة كالمسيحية والإسلام، فقد كان هذا الاستعباد يبيح اغتصاب الجارية ومعاشرة عدد لا محدود منهن، وضرب الزوجة تأديبا (في مشهد في المسلسل يضرب الزوج زوجته بالحزام بسبب مخالفتها له معتذرا لها مسبقا: «اغفري لي يا عزيزتي»، لتهبط الزوجة الحرة في لحظة إلى عبدة مملوكة في مواجهة الزوج)، ثم تحريم ممارسة الطب على النساء، وهو ما كان منتشرا في التراث المسيحي بشدة، حيث أقيمت محارق «الساحرات» في أوروبا وأمريكا بتهمة مزاولة الطب، هذا إضافة إلى امتلاك الرجل للأطفال، إذ يعدّ المحدد لهوية الطفل وصانعا منه ومن الزوجة أسرة متكاملة، ثم ملاحقة المستعبدات وإعادتهن «بقوة القانون» إلى بيوت مالكيهم، وإقناع النساء دينيا بهذا القدر وبهذا الدور وبأن الحياة والإله يطلبان منهن هذا الواجب، ثم توحيد شكل وألوان ملابس النساء (أفغانستان مثالا) ليصبحن مجرد أجساد خالية من الروح، ومنع النساء من تداول فهم النص الديني وتفسيره.. كل هذه الصور وأقسى يشكلها المسلسل دراميا حول مستقبل قريب تعود فيه مقاطعة نيوإنجلاند إلى الحكم الديني، وتعود معه النساء آلاف السنوات إلى الخلف، وللبعض منهن بإرادتهن، حيث يبين المسلسل كيف أن الثورة قامت على سواعد البعض منهن واللواتي أصبحن ضحايا لهذه الثورة فور استتبابها.
تذكرني هذه الجزئية تحديدا بقصة شيرين عبادي، الإيرانية الحائزة جائزة نوبل للسلام، التي روتها في كتابها Iran Awakening أو (إيران تصحو)، حين اعترفت شيرين بأنها آمنت بالثورة الإسلامية وناضلت من أجلها لتصبح ضحيتها بعد أسبوع واحد من قيام دولتها.
إعياء شديد، وألم في الرأس، وحرقة في العينين، صاحبت كلها الانتهاء من الموسم الثالث للمسلسل، الذي حاول زوجي إيقافي عن مشاهدته أكثر من مرة خلال الأيام الماضية، إلا أنني أخبرته أن هذا القدر الذي يستعرضه المسلسل يخصنا جميعا، فكل امرأة على سطح الأرض يفترض بها أن تتمعن في المعنى، في التاريخ الذي كان، وفي المستقبل الذي يمكن أن يكون، أخبرته أنني مجرد مشاهدة لهذا العمل القاسي، ماذا عن كل النساء اللواتي عشنه ولا يزلن؟ مشاهدة المسلسل كانت مجرد مواجة آمنة من طرفي مع حقــــائق وتاريخ وتوقعات مستقبلية، محمية أنا منها جميعا خلف شاشة التلفزيون وفي كنف ظروفي الآمنة، لربما أقل الممكن من طرفي، وعلى كل مشاهدِة أخرى تواجه هذه الحقائق أن تذكر هؤلاء اللواتي كن ضحايا تلك الظروف، ومحاولة مد يد المساعدة للأخريات اللواتي لا يزلن يعشن ظروفا مشابهة. شاهدوا العمل، ولنواجه تاريخنا، ولنثر على كل تفاصيله الظالمة بلا خجل أو خوف.