من عجائب تكييف اللغة مع بيئتها وتكيفها معها وجود تعابير غريبة وربما طريفة، فقط لغير أهل اللغة، خاصة جدا بها ومتوائمة تماما مع عقلية أبنائها. تكثر في اللغة العربية تعابير مثل “خطوط حمر” و”عدم مساس” و”رمز فوق الشبهات” وغيرها من التعابير التي ترفع إنسانا معينا فوق مستوى الآخرين وتضفي عليه هالة تجعل من نقده أمر مرفوض وربما غاية في الخطورة.
الطريف أنه لا توجد في اللغة الإنكليزية فعليا مصطلحات ثابتة تعكس ترجمة دقيقة لهذه التعابير العربية. بكل تأكيد يمكن ترجمة التعابير هذه بوضوح، إلا أنه ليس لها ردائف ثابتة في اللغة الإنكليزية، فثقافة هذه اللغة “الحالية” ليس فيها خطوط حمر، لا معنى فيها “للمساس”، ولا مكان فيها لرموز تتقدس وترتفع عن الشبهات.
في الواقع، اللغة الإنكليزية لغة تشككية، تحقيقية، بمعنى أنها تميل للتحقق والمساءلة، هي لغة مواجَهَة وهي لغة مباشِرة، لا تلف وتدور، ولا تعطي الأشياء مئات من الأسماء، إلا في حالات قليلة. اللغة الإنكليزية أقل عاطفية، أكثر عملية، وهي لغة تطورت من مصطلحات الخضوع إلى مصطلحات المواجهة، من التعابير الطبقية إلى التعابير المساواتية، لغة يشعر من يستخدمها أنه متساو مع من يسمعه حين تبادلها مهما كانت مكانة المستمع أو طبقته الاجتماعية أو السياسية أو حتى العلمية.
في اللغة الإنكليزية يميل الناس لاستخدام الأسماء الأولى لا الألقاب، فهي لغة لا توفر الكثير من التعظيم والتفخيم، على الأقل حاليا، ليس فيها ألقاب ثابتة مثل “حضرتك”، ولا تعكس المسافة بين من هم أعلى الهرم الاجتماعي وأسفله، فالوزير والغفير كلاهما أجير، لا فرق بينهما سوى في جودة العمل وحسن التصرف. اللغة الإنكليزية تبيح لعامل النظافة محاسبة رئيس الوزراء، اللغة العربية تضع أمام عامل النظافة ألف خط أحمر، وتخلق من الوزير رمز معظم يمنع هذه المحاسبة بل ويحولها إلى ضرب من خيال.
لست هنا في عارض نقد اللغة العربية، فجمالياتها لا تعد ولا تحصى، عمقها ولذة تصفيف كلماتها لا تضاهى، وشِعرها هو الأجمل على الإطلاق، لربما لا يضاهي رنة هذا الشعر في أذني سوى رنة الشعر الفارسي الذي لا أفهم منه شيء سوى موسيقاه البديعة التي تخلب لبي.
إلا أن اللغة العربية، ويح قلبي، مليئة بالتعابير والمصطلحات والكلمات التي تعكس ثقافتنا المتعمقة في الطبقية والترميز، العاكسة للفروق الموجودة بيننا، للخوف المتحقق من تخطي هذه الفروق، وللخطر الحقيقي من محاولة النقد الذي توفر له اللغة كلمة “مساس”. واتتني هذه الفكرة وأنا أقرأ خبرا حول التواجد العسكري لـ “حزب الله” في بيروت بينما الدولة اللبنانية غائبة، ترى إلى أي حد يمكن أن نقول ما نريد أن نقول؟
توالت الذكريات، ليحضرني مشهد من 2004 أو 2005 حين كنت أكتب في جريدة كويتية مخضرمة، ونشرت سلسلة مقالات حينها ناقدة لـ “حزب الله”. ارتفعت موجة عارمة من الغضب من المحيط الشيعي في الكويت تجاه هذه المقالات، والتي “ويا للعار” تأتي من امرأة من “الجماعة” بحد ذاتهم. توالت الرسائل الحادة، إيميلا، وتلفونيا، وشخصيا، إلا أن أقساها كانت تلك التي وردت والدي، والتي لم أعلم عنها شيئا سوى لاحقا، حيث أنه كتم عني كل ما ورده.
في مجتمعات محافظة مغلقة متكتلة مثل مجتمعاتنا، الكل يعرف الكل وخصوصا الرجال الذين يتكومون في ديوانياتهم ليحللوا ويفصلوا ويبتوا في الأمور، فوصلت الرسالة واضحة لوالدي: “امسك ابنتك” لتتعداها بعد ذلك إلى محاولة مضايقته المباشرة في عمله والتي هي محاولة باءت بفشل ذريع نظرا لسمعة الماسية وصفحته المبدئية والأخلاقية الأنصع في محيط عمله الحساس.
لم يذكر لي والدي شيئا، لم يطلب مني شيئا، لم يلمني على حدة طرح أو مباشرة توجه رغم علمي باختلافه بعض الشيء في الرأي معي، وحين أصبح الكتمان صعبا سألته أنا، فابتسم ابتسامته الهادئة المعتادة وقال “مالك تفكرين بالهامشي من الأمور؟”.
لم يكن هناك شيء هامشي في الموضوع. كانت تلك هي تجربتي الأولى مع الخطوط الحمر وحرمة المساس. قبلها، كنت أتصور أنني دوما أستطيع أن أقول ما أريد وكيفما أريد، إلا أنني اكتشفت أن هناك قطارا طويلا من الأحبة قد يلفحهم هواء اندفاعي ووضوحي، أحبة، ويا لرحمة الأقدار، لا يزالون هنا بصحبتي، متقبلين هذا الهواء الساخن مهما اشتد وقسى.
تحضرني الآن رسائل اللوم القاسية ذات النبرة التهديدية: “السيد نصر الله رمز لا يمس” والتي رددتها بالقول “حاضر، ليبقى في البيت ويعتزل السياسة، ساعتها سأتنازل عن حقي في النقد، من يلعب سياسة لازم ينزل الملعب”. آخر لامني أنني أشق الصف، فقلت له أنني لا أقف في صفوف، فأنا من عشاق المساحات الممتدة الخالية الفسيحة. أخرى نبهتني أنني قد أقف بآرائي أمام طريق زواجات إخواني، لي ثلاثة إخوة ذكور كلهم يصغرونني سنا، فقلت أذكرها “كله قسمة ونصيب”، أليس هذا ما تكررون؟
15 سنة لاحقة، ولا زال “حزب الله” ينزل شوارع لبنان عسكريا، أتراه لا يزال يحتفل “بالنصر الإلهي” الذي احتفى به في 2006 ودماء أطفال قانا ما جفت بعد؟ أم تراه ينشر جيشه وصولا لمطار لبنان كما حدث في أوائل زمن الأزمة السورية؟ كيف هي العلاقات مع إيران بنظام ملاليها القمعي وسوريا بنظام أسدها الذي يقتل السوريين بأسلحة الطيران؟ التمويل ماشي؟ الرموز أمرها مستتب؟ “حضراتكم” بخير؟