يقولون دوماً إن المجتمعات العربية، ولربما كل الشرق أوسطية، هي مجتمعات جماعية، أي أنها تفضل الجماعة على الفرد وتغلب مصلحتها على مصلحته، في حين أن المجتمعات الغربية هي مجتمعات فردية تغلب الفرد ومصلحته على تلك التي للجماعة. المثل الذي يضرب على هذا التصنيف كثيراً هو مثل التعامل مع مؤسسة الزواج، ففي حين تغلب مصلحة الأسرة على تلك التي للفرد في الدول العربية، فيُحث الأفراد على البقاء في زيجاتهم وإن كانت تعسة من أجل الأسرة، تغلب مصلحة الفرد في المجتمعات الغربية التي تشجعه على ترك حياة التعاسة وتغليب سعادته. لست بصدد مناقشة أيهما أصح، ولكنني لا أرى حقيقة كيف أننا مجتمعات تُغلب مصلحة الجماعة أو تعلي شأنها ونحن نتنافس حتى في دقائق حياتنا اليومية على تخطي بعضنا بعضاً بكل الوسائل الممكنة.
كيف نكون مجتمعاً جماعياً ونحن نتصارع بشكل يومي في الشوارع، لا ننتظم في طابور ولا نصبر عند مفترق طرق ولا نبتسم مفسحين طريقاً ولا ننتظر مؤثرين رفيقاً، فالانتظام وإن كان يؤخر الفرد قليلاً، إلا أن محصلته النهائية هي إسراع تحرك الجماعة بأكملها. هل نحن مجتمع جماعي ونحن نستغل الخدمات البسيطة الموجهة للمجموعة الأضعف، فنقف في مواقف المعاقين ونحرمهم ميزة فرضتها عليهم ظروفهم؟ كيف نكون مجتمعاً جماعياً والواسطة، التي هي أم الأنانية وأبوها، تنتشر عندنا بشكل مرضي حتى أصبحت هي القاعدة بينما أصبح العدل هو الاستثناء؟ هل يقبل المجتمع الجماعي بوجود فئة هي من عقر أصله وفصله، تشاركه سنواته كلها وهواءه وماءه، أن تبقى مذمومة معزولة دون هوية أو حقوق؟ هل يمكن للمجتمع الجماعي أن ينقسم في داخله إلى ألف جماعة، كل واحدة تتحيز ضد الأخرى وتقصيها وتتآمر عليها بإيصال مندوبها السياسي إلى مقر التشريع دون غيره وأحياناً بأرخص الوسائل الممكنة؟
وكيف هو وجه المجتمع الجماعي هذا الذي تتسلى فيه شرطته بشعبه ومقيميه، فما إن يقعوا في أيديهم بتهمة ما، حتى يتحولوا من بشر إلى دمى للتسلية، مادة لتفريغ الغضب والحقد كما حدث مع المرحوم الميموني أو مادة للتسلية كما يحدث كل يوم مع الوافدين، الحلقة الأضعف في هذا المجتمع، الذين نعرف تماماً ما يعانون في مخافرنا من معاملة. صورة تنتشر على تلفوناتنا في الفترة السابقة لاثنين من الجالية الهندية يتسلى بهم بعض أفراد الشرطة في المخفر، ليملؤوا حياتهم الخاوية ليس فقط من المبادئ ولكن حتى من فطرة التعاطف الإنساني بلحظات انتشاء مريضة. أين هي روح الجماعة، وحس الحماية الجمعي، أو في أقل الأحوال الروح الإنسانية البدائية في موقف كهذا وفي مجتمع يدَّعي أن الجماعة عنده هي أغلى مقوماته؟ كيف ينتج مجتمع يحب الجماعة أفرادا على هذه الشاكلة، وكيف يتكرر هؤلاء الأفراد وحوادثهم، فيقعون في فخاخ صورهم الملتقطة وأخبارهم المسربة وأصواتهم المسجلة، ويعودون ثم يعودون إلى ذات الأعمال وليثبتوها بذات الأدوات التسجيلية؟ ماذا تقول هذه الحوادث عنّا؟
تقول إننا مجتمع يحب الجماعة لكننا في الواقع نحب الفضيحة أكثر، ننشر الفيديوهات الفاضحة مذيلة باستغفارنا واستنكارنا، ألم يكن من الأجدى أن نحتفظ بالاستنكار والاستغفار لأنفسنا ونخفي هذه التسجيلات حفاظاً على أخلاق الجماعة وسمعتها؟ إلى هذه اللحظة لا يبدو سوى أننا لا نحب الجماعة ولا نحب الفرد، نحن نحب أنفسنا وننكر الآخر، فإذا ما لففنا عليه وتخطيناه برعونة في الشارع، وإذا ما اقتحمنا دوره وقتلنا حقه بواسطة، وإذا ما نشرنا فضيحته وتناقلنا أخطاءه، وإذا ما هزمناه وأقصيناه بسبب انتماء عرقي أو على أثر قرار سياسي، وإذا ما أدرنا وجوهنا عن إعاقته واستأثرنا بحقه، وإذا ما عرفنا يوماً أن نلتزم طابوراً ينظم حق كل من في الجماعة، وذاك أضعف إيمان المجتمع الجماعي، فكيف نصبح مجتمع جماعة يا جماعة؟
ليس الاتهام موجهاً للمجتمع بأكمله، فالإنسان في أصله طيب النفس مجبول على الخير، إلا أن القلة المخربة سرعان ما تزحف على وجه الكثرة الطيبة حتى لتمحو وجودهم وأثرهم، وهنا يأتي دور الجماعة في فرض السلوك الطيب، ليس بالقوة ولا حتى بالقانون بل بانتهاج المثل الصحيح والإصرار على امتطاء صهوة الحق البطيء الذي قد يؤخر منافعهم حتى، والآخرون يمتطون ظهر الباطل السريع. أي تهاون أو انضمام مؤقت لركب الأنانيين، يلغي كل صفة لنا كمجتمع جمعي، وبما أننا لسنا مجتمعاً فردياً من البداية، فسنصبح لا هذا ولا ذاك، وعلى رأي الزعيم عادل إمام “حنبات في الشارع”.