«ماذا لو؟» سؤال يسعدني ويعذبني ويسمح لي أن أعيش «سيناريوهات» مختلفة، ثم يتركني بعد نشوة الحلم أو رعب الكابوس بلمحة رضا أَن كان ما كان، أو ببقايا طعم مر لحقائق لا تتغير وزمن لا يعود وقرارات صغيرة كان يمكن لاتخاذها أو تفاديها أن تغير مجرى الحياة.
مدفوعة أنا دوماً بحتمية النهاية، بحقيقة قرب انتهاء جنسنا البشري وبواقعية فناء الكون كله، مع الاعتذار عن تقريب النقيضين، البشر بنمنمتهم وضآلتهم الشديدة والكون بعظمته ولا نهائيته. شيء ما في حقيقة قرب انتهائنا، فلا يمكن لجنس حي أن يستمر إلى ما لا نهاية، حيث لابد للفناء أن يصيبه حتى قبل فناء الأرض والكون بمجمله، يدفعني دوماً للتفكير بسؤال غير مهم مطلقا: “ماذا لو؟”.
لربما هي حقيقة العدمية واللاهدفية، حقيقة أن كل ما نفعله لا طائل منه، كل ما نسعى إليه سينتهي إلى فجوة سوداء غائرة لا أبعاد لها ولا زمن فيها ولا شيء مما نعرف ونفقه، حقيقة غياب الغاية وانعدام نقطة الوصول، جميعها تجعل للحياة قيمة كبيرة وفي الوقت ذاته تجعلها بلا قيمة نهائياً، وبين هذين التناقضين دوماً يلح عليّ السؤال، أتفكر فيه وكأنني أقامر مع نفسي، فأسعدها بمصاير أفضل وأرعبها بنهايات أبشع وأمرّ. شيء ما في الـ”ماذا لو” كأنه يطيل أمد الحياة، يجعلني أعيشها أضعاف زمني فيها، يسمح لي أن ألاعبها مراهنة على عبثيتها وحتميتها وسخرية أقدارها.
ماذا لو أن أننا لم نكتشف العجلة؟ ماذا لو أننا لم نعرف النار؟ ماذا لو لم يختر جد الإنسان الوقوف على قدميه؟ ماذا لو أن أفلاطون لم يدرس أرسطو؟ ماذا لو لم تُحرق أعمال صافو الإغريقية؟ ماذا لو لم تُدمر كتب ابن رشد؟ ماذا لو صمتت روزا باركس؟ ماذا لو لم تولد هدى الشعراوي؟ ماذا لو لم يكن فهد العسكر أعمى؟ ماذا لو وقف هتلر على أعتاب الاتحاد السوفياتي؟ ماذا لو لم يقدم فرانشيسكو فرانكو مدينة غارنيكا لألمانيا النازية لتجرب عليها أسلحتها؟ ماذا لو لم يهرب البروتيستانتيون إلى “الأرض الجديدة” في أميركا؟ ماذا لو لم يرسم دافينشي الموناليزا؟ ماذا لو لم نخترع فكرة البنوك؟ ماذا لو لم يسمح عبدالناصر بالمعتقلات؟ ماذا لو صدق الراديو حول نكبة 67؟ ماذا لو لم يقم أنور السادات من مكانه؟ ماذا لو لم يبق مارتن لوثر كينغ في مكانه؟ ماذا لو لم تأت حكومة ريغان؟ ماذا لو لم يُخلع محمد مصدق؟ ماذا لو لم يضع مبارك الكبير شرطه؟ ماذا لو لم يحدث تفجير المقاهي الشعبية؟ ماذا لو استمر انشغال أحمد الفهد بالرياضة دون “غيرها”؟ ماذا لو لم “يتوارثوا” الرياضة أصلاً؟ ماذا لو لم ندفع لصدام حسين إبان الحرب العراقية الإيرانية؟ ماذا لو لم يظهر عندنا النفط؟ ماذا لو ظهر واختفى بسرعة؟ ماذا لو مات بلفور قبل وعده؟ ماذا لو بقي الأسد مجرد طبيب عيون؟ ماذا لو كانت جارتنا هي النمسا بدل إيران؟ ماذا لو أن حسن نصرالله اختار أن يكون مدرساً في الحوزة وحسن البنا ساعاتياً في المحمودية؟ ماذا لو أن مفجر مسجد الإمام الصادق تأخر دقائق؟ ماذا لو أن ولديّ الدكتورة لميس البستان الصغيرين كانا يقفان أمتاراً أبعد أو أقرب من مكانهما في صفوف المصلين داخل المسجد؟ مؤخراً يلح عليّ هذا السؤال دون توقف، وكأن كل أسئلة الدنيا توقفت عند هذين الصبيين، كلما وقعت عيناي عليهما وعلى جروح جسديهما غافلني السؤال وهاجمني وفرض عذاباته عليّ: ماذا لو أنهما كانا أبعد أو أقرب؟
“ماذا لو؟” سؤال يسعدني ويعذبني ويسمح لي أن أعيش “سيناريوهات” مختلفة، ثم يتركني بعد نشوة الحلم أو رعب الكابوس بلمحة رضا أَن كان ما كان، أو ببقايا طعم مر لحقائق لا تتغير وزمن لا يعود وقرارات صغيرة كان يمكن لاتخاذها أو تفاديها أن تغير مجرى الحياة، ماذا لو أنني لم أقرأ كتاب شهلا حائري؟ من كنت سأكون اليوم؟