رغم كل ما تمر به المنطقة العربية من أزمة طاحنة، تحديداً من خلال الجرائم الوحشية التي ترتكب الآن في غزة، ورغم كل الويلات التي جلبها هذا الوجود الطفيلي الصهيوني في قلب الشرق الأوسط منذ أن حُقنت المنطقة به كفيروس مميت لا يزول، إلا أن الخطاب العربي، وتحديداً الخليجي، لا يزال يتعامل مع إيران على أنها الخطر الأكبر في المنطقة، مبتعدين بذلك، عن قصد أو بغيره، بالأنظار عن إسرائيل الصهيونية كالعدو الأول والوجود الطارئ والجسم الغريب المدسوس دساً عنيفاً في جنبات المنطقة.
وإيران هي دولة كبرى في المنطقة، وهي دولة مخابراتية بلا أدنى شك، تحاول فرض سيطرة “إمبريالية ناعمة” على المنطقة حالها في ذلك حال أي دولة كبرى تجاه جيرانها في أي بقعة في العالم. وما التدخلات الإيرانية في سوريا تحديداً سوى مثال أوحد بين أمثلة عدة للمحاولات الإيرانية للتدخل التمويلي والعسكري “الخفيين الظاهرين” في المنطقة. ولربما أن ما يزيد النظام الإيراني سوءاً هو أفعاله في الداخل الإيراني والتي من خلالها هدم بنى تحتية اقتصادية مهمة وأسس لقمع وإقصاء أيديولوجيين خطيرين وعزل إيران عن بقية العالم، هذا بخلاف أن النظام الإيراني أصبح اليوم أحد أمر رموز العنصرية الجنسية في العالم من حيث قمعه وتنكيله بالنساء الإيرانيات بحد ذاتهن. ليست الصورة الإيرانية بجيدة مطلقاً سوى في حيز أوحد، لربما هو الذي يعنينا اليوم في لعبة السياسة التي لا تعرف أعداء أو أصدقاء دائمين.
وإيران ليست بكيان دخيل على المنطقة. لم تتم زراعتها في الشرق الأوسط بواسطة قوى خارجية استعمارية، في الواقع إيران تسبق بوجودها الجغرافي والحضاري كل الدول العربية بآلاف السنوات. وإيران لم تشكل في يوم خطر عسكري مباشر على جيرانها، إنما هي تشكل وبلا شك خطر استخباراتي تآمري، وهي بذلك لا تختلف في استخبارها وخطورتها عن أفضل حلفاء المنطقة من دول العالم الكبرى. وهي دولة “قابلة للمحاورة” مثلما تبين من الحوارات السعودية الإيرانية التي تبدت مؤخراً مثيرة استغرابات وتكهنات وامتعاضات وابتسامات كثيرة في المنطقة. إضافة إلى كل ذلك، يبقى لإيران صورة إيجابية تتجلى في موقفها تجاه إسرائيل، وهي الصورة التي يفترض أن تستثمرها الدول العربية حالياً وبشكل عاجل وفاعل في محاولة لإيقاف جريمة الإبادة الجماعية الواقعة في غزة وذلك قبل الوصول إلى الحديث عن حلول مفصلية أخيرة لأزمة الاحتلال الرابض في قلب المنطقة.
نختلف أيديولوجياً وعسكرياً وسياسياً مع حماس كما مع إيران وحزب الله مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق الكبير بين حماس وحزب الله كميليشيات عسكرية وإيران كدولة مستتبة الأركان. إلا أن واقع الحال يقول أن هذه اللحظة تحتم موازنات مختلفة، تجعل من عدو الأمس صديق اليوم وصديق الأمس الذي وضع يده في يد عدوي المغمسة بالدماء هو ألد أعدائي اليوم. المثير في الموضوع أن إيران ما كان يفترض أن تكون عدواً لدوداً للمنطقة على مدى المئة سنة الماضية، فهذا الدور كان ويفترض أنه لا يزال حكراً على إسرائيل الصهيونية. نعم إيران تشكل خطراً على المنطقة، لا تقل في ذلك خطورة عن تركيا، الولايات المتحدة، روسيا، الصين وحتى بعض الدول الأوروبية، إلا أنها لا يفترض، في العرف السياسي، أن تكون عدواً لدوداً رئيسياً يكون للدول العربية موقف، أو بالأحرى خطاب، عسكري منه. في ذلك لطالما كان للكويت موقف متزن متسق وحجم الحدث.
إيران ستبقى، بالنسبة لي شخصياً وعدد كبير من يسار وليبرال المنطقة، عدواً أيديولوجياً خطراً ومؤذياً، إلا أن الحسبة السياسية ليست متساوية والحسبة الأيديولوجية، وعليه، ما كان يجب أبداً أن تستبدل الدول العربية إسرائيل بإيران كمصدر الخطر العسكري والسياسي الرئيسي في المنطقة، حيث أن قرار الاستبدال هذا ما كان سوى قراراً عنصرياً طائفياً فقير الحصافة والاتزان.
والآن، وقد كان ما كان، يبقى أن إيران اليوم هي حليف مهم ضد إسرائيل، ومن هنا، فإنه ينبغي على الدول العربية أن تعود لموازنة المعادلة، كما فعلت الكويت دائماً وفعلت السعودية مؤخراً، وأن تكون منصفة سياسياً، وأن تتبنى موقف سياسي محق وأخلاقي صادق، فتعيد العداء لهدفه المستحق وهو إسرائيل وتعيد “المحادثات” لمسارها المهم مع إيران ولو إلى حين.
أتصور أنه تحت وقع مشاهد المجازر الوحشية في غزة، يفترض بنا أن نضع تعصباتنا وتحيزاتنا وطائفياتنا في قائمة الانتظار، أن نعدل قائمة أعدائنا وأصدقائنا، وأن ننتبه لخدعة القرن التي حولت العداء عن إسرائيل المستعمرة الوحشية لصالح حلفائها الخارجيين. لننظر حولنا ونعقلها، من عدونا الحقيقي اليوم، وكل يوم؟