يقول كتاب Smithsonian Intimate Guide to Human Origins للكاتب كارل زيمر أن الطفرة البشرية القادمة لن تكون جينية وإنما في الغالب إلكترونية، بمعنى أن الجيل الذي سيشكل طفرة انتقالية في جنسنا البشري سيكون جيل إلكتروني، بشر آليون سيشكلون تطوراً جديداً في تاريخنا البشري القصير.
فنتيجة لتدخلاتنا الثقافية وما تشمل من تدخلات علمية مختلفة، لن يبقى تطورنا كجنس حي في حيز التطور الجيني، لربما سنغير في الواقع كل تركيبتنا الطبيعية لننتهي كبيولوجيا ونتحول إلى تكنولوجيا بحته، ولربما، من يبقى منا في حيز البيولوجيا، سيقفز قفزات تطورية سريعة، ولربما سنستطيع تقرير مصائرنا، بكل ما تحمل هذا القدرة من سلبيات وإيجابيات، باتجاه ما نريد لجنسنا من حيث القدرات الجسدية والعقلية.
مآخذ هذه الثورة العلمية كثيرة، لربما أهمها، كما يذكر زيمر، هو حقيقة أن مثل هذه الخدمة المستقبلية الخلابة قد لا تكون متوافرة سوى للأغنياء فقط ولزمن طويل. إلا أن الكاتب يذكرنا كذلك أن المضادات الحيوية المنتشرة باتساع اليوم وبأرخص الأثمان كانت، وحتى زمن الحرب العالمية الثانية، أدوية شديدة الندرة وعالية التكلفة، حتى أن الولايات المتحدة احتكرت كل الكمية المتوفرة من الدواء على أرضها إبان الحرب لمعالجة جنودها المصابين في المعركة. ومهما كانت المآخذ، فإن الخدمات التي ستقدمها الهندسة الجينية قضاءاً على الأمراض أو ضماناً لمستقبل أفضل للأجيال البشرية القادمة ستجعل من مقاومة هذا العلم وهذه الخدمة ضرب من الخيال.
لربما سيكون آخر المقاومون هم سكان الشرق الأوسط المعجونين بالتوجس من كل جديد، مقيمين هذا العلم مبدئياً على أنه رجس من عمل الشيطان. لازلت أتذكر حين انتشر خبر النعجة دوللي، والتي أتى “صنعها” كنتاج أحد أوائل عمليات الاستنساخ الحية، كلمات إحدى زميلات وظيفة قديمة والتي علقت: “أعوذ بالله، هذا زنا.” لازالت تعابير وجهها تحضرني حين قلت لها: “الزنا يحتاج لرجل وامرأة وفعل جنسي، وهذه كلها غير موجودة في عملية الاستنساخ، فكيف يكون زنا؟”
في عالمنا الإسلامي عموماً وفي شرقنا الأوسط تحديداً، سيكون هذا الحوار المستقبلي أخلاقي أكثر منه علمي، وديني أكثر من أخلاقي، وسيذهب المشروع بعيداً في غياهب جب الحرام، وسيتوه في أروقة آراء “رجالات دين” لا علاقة لهم بالعلم لا فهماً ولا مساهمة، وسترقد التكنولوجيا المنقذة للبشرية بأكملها تحت رحمة فتوى تقودها مصلحة سياسية أو منفعة مادية أو فهم تراثي قديم. سنتعطل كثيراً إلى أن تصبح المقاومة مستحيلة، ويصبح هذا التطور العلمي جزء من الحياة اليومية، ويتحول الناس للاستفادة منه شاؤوا هم ومفتيهم أم أبوا. القصة كلها رأيناها تتكرر مراراً وتكراراً، وبوادر هذا الفصل منها تطل برأسها علينا الآن من أبواب المستقبل القريب.
والحق يقال أن علم الهندسة الوراثية سيشكل معضلة كبيرة للقدريين ولأصحاب نظرية التسيير والتخيير، بكلا قطبيها المتنافرين. فمن يعتقد الإنسان مسير سيكون عليه مراجعة مبدئه تعاملاً مع التدخل العلمي الصارخ في عملية “التصنيع” البشرية والتي تجعل الكثير من التكوينات الفكرية والبيولوجية خياراً للبشرية. ومن يعتقد الإنسان مخير سيكون عليه مراجعة مبدئه كذلك نظراً لذات التدخل العلمي الذي ينفي بوضوح وجود الخيار الشخصي، واضعاً مصير الإنسان الجسدي والفكري في يد “صانعيه”، أبوين كانا أو مختبر علمي. سيختفي مفهومي التسيير والتخيير، أو سيتغير تعريفهما، فبفحواهما الحالي لن يكون لهما معنى في مستقبل تكنولوجي قادر على هذه الدرجة من التحكم في الناس ومن تخييرهم في ذات الوقت.
ستكون هناك حاجة كذلك لمراجعة مفاهيم وإعادة قراءة وتدبر الأفكار والنصوص مثل فكرة عدم معرفة ما في الأرحام، وهو مفهوم استشكالي حالياً بوجود تكنولوجيا متطورة ليس فقط لمعرفة ما في الرحم ولكن كذلك لتقريره في الواقع، ومثل مفهوم أحسن تقويم حيث يمكن اليوم الإضافة إلى هذا التقويم وتحسينه. ستختلف الدنيا كثيراً مع تطور الهندسة الوراثية، وستنقلب الكثير من المفاهيم رأساً على عقب، وسيحارب “الخائفون” أياً كانت أسباب خوفهم، مصلحية أو عقائدية، هذه التكنولوجيا العظيمة ثم سيكونون أول المستفيدين منها نظراً لامتلاكهم المال والعلاقات. في الوقت “المناسب” سيجدون مخرجاً للحرام الذي سيصبح حلالاً تماماً مثلما انتقلوا بصمت وسلاسة من التحريم الصارخ للتصوير إلى أخذ سلفي في الحرم الشريف.
التكنولوجيا الجينية الخارقة قادمة، فما نحن فاعلون؟ هل سندخل معها في معركة خاسرة؟ هل سنستخدمها “لتصنيع” المزيد من الطغاة، على عادتنا في استخدام الأداة لعكس هدفها؟ هل سنستخدم هذه التكنولوجيا لنعمق مشاكلنا كما استخدمنا وسائل التواصل لتكميم الأفواه والديموقراطية لإيصال الديكتاتوريين؟ هل سنتسبب في إخلال خارق بميزان البشرية بزيادة عدد الذكور عن الإناث مثلاً أو برفع نسبة “المطيعين” على نسب المفكرين الأحرار؟ أي نوع من البشر نود إنتاجه في هذا الشرق الأوسط الكظيم؟