بخلفيات ناصعة في بهائها، تصلني صور الأحبّة المصطافين في مالطة، تراسلنا عالية برقتها المعهودة «مكانكم خالي»، فأذوب شوقاً لأوقات أجمل، أتذكّر أياماً أكثر حناناً وشفقة أخذتنا إلى ضفاف جزر المالديف، سفرة مضغوطة بين أيامنا المتسارعة وجيوبنا الضامرة، نصرخ أنا وعالية وجداً وفرحاً، يخلع القلب في ماء المالديف الصافي كأنه قطعة زجاج ضخمة تلمعها السماء يومياً، فتبرق صفاءً يوجع العين، يراقبنا من بعيد زوجانا بشيء من الإحراج، وفور خروجنا من الماء يعاتباننا: «أنتما مصدر التلوث الضوضائي الوحيد على هذه الجزيرة»، فتعلو صرخاتنا وتنفث الأوكسيجين النقي الذي لم تعتده رئتانا، بضحكات وتعليقات فرحة باتت حسيرة في أيامنا المعتادة.
هذا الصيف كتب الفراق، فغادرت عالية وعائلتها إلى مالطة يصارعون موج البحر هناك، وبقيت أنا في الكويت أصارع موجات الغبار وهبّات الرطوبة ولفحات الهواء الساخن. الصغيران عمر وبدر في صورة رائعة خلفهما مساحة زرقاء غامقة كأنها مرسومة بالزيت، تستحضر ذاكرتي فوراً طشت دشاديش والدي المنقوعة «بالجويت»، أعشق هذا السائل الملون وغالباً ما كنت أغافل والدتي لأنقع يدي فيه.
لا أدري لماذا أتذكّر هذا الطشت الأزرق كلما رأيت بحراً أزرق ممتداً، إنها الذاكرة الطفولية الإعجازية التي ترتبط ذكرياتها بكل جميل لاحق أصادفه في حياتي. ومن طشت «الجويت» إلى إيليا أبو ماضي الذي لا يمكنني في يوم أن أشاهد بحراً من دون أن أستحضر «طلاسمه» التي يقول فيها:
أنت يا بحر أسير آه ما أعظم أسرك
أنت مثلى يا جبّار لا تملك أمرك
أشبهت حالك حالي وحكى عذري عذرك
فمتى أنجو من الأسر وتنجو؟
لست أدرى.
ويستحضر أبو ماضي روح د. أحمد الربعي، جالساً في فناء بيت صديقه، عمي عبد المحسن مظفر، وهو يقرأ من «الطلاسم» وقد اتسعت حدقتاه وارتفع كفه فوق غترته وارتعشت نبرته:
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود
هل أنا حرّ طليق أم أسير في قيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود
أتمنى أنني أدري ولكن..
لست أدري!
ويخطرني حبيب القلب عباس محمود العقاد وهو يفلسف الوجود قائلاً «فراغ بارد شات/ بلا ماض ولا آت»، كم كنت أغضب من تشاؤمه الذي يصوره بأجمل الكلم العصي على التجاهل، لكني غفرت له بعدما قرأته يشكر «صداراً» نسجته له حبيبته فيقول لها بعذوبة تذيب الصخر:
هنا مكان صدارك… هنا هنا في جوارك
والقلب فيه أسير… مطوق بحصارك
كتب العقاد هذه الأبيات في حبيبة صغيرة بعمر أولاده، وعلى رغم تعاطفي مع عشقه إلا أن أبيات الإمام علي بن أبي طالب تلح علي: «إلامَ تجرّ أذيال التصابي/ وشيبك قد نعى برد الشباب».
أعود ثانيةً إلى الصور تتوالى في عرض سخي يطفئ بعض الشوق، صورة أخرى فيها مبانٍ تاريخية لمالطة خلفها مساحة بيضاء شفيفة. لا أحبّ اللون الأبيض منذ ربطه أمل دنقل بالموت، حيث يستنكر إحاطته به في مستشفاه قائلاً: «كل هذا يشيع في قلبي الوهن/ كل هذا البياض يذكرني بالكفن». أستعيذ من الفكرة وأسأله سبحانه صاحب هذه الفرشاة الفنية الخارقة أن يحفظ أحبتي ويصبغهم ببياض الحياة السعيدة الممتدة، وأرجو كلمات أبو القاسم الشابي وهو يغني:
أقبل الصبح جميلا يملأ الأفق بهاء
فتمطّى الزهر والطير وأمواج النبات
قد أفاق العالم الحيّ وغنى للحياة
صور لأحبتي في لحظات حنان وسعادة، قبة صافية وسائل أزرق وأوكسيجين يكاد يفرّ من الصور إلى صدري المكلوم بالغبار والهموم، فأعدني بصيف قادم أكثر رحمة، خال من القلق، مليء بتذاكر السفر والرحلات، صيف لا مساجين فيه ولا متاعيس، لا اعتصامات ولا ندوات، صيف يطير على جناح الطائرات ويقف في طوابير المطارات ويتمشى في متاحف وأسواق بلاد الغرب الشرير، وما ذاك على الله بكثير، حيث يقول الشابي:
وأعلن في الكون: أن الطموح… لهيب الحياة، وروح الظفر
إذا طمحت للحياة نفوس… فلا بد أن يستجيب القدر.
فاستجب أيها القدر، إما ترفقني بعالية في الصيف المقبل، أو تبقيها برفقتي ها هنا في الديرة ترفقاً بغيرتي وأشواقي.