الفجوة كبيرة جداً بين ما يتكرر من حديث يبدو خطابياً وما نعيشه في الواقع، وهي فجوة تعمق المشكلة رغم أن صانعيها يعتقدون أنها تجمل الوضع وتضمد الجراح. في جلسة محفوفة قبل أيام طرقت أذنيّ الجملة ذاتها التي يعتقد أصحابها أنها تنصف الدين في حين أنها في الواقع ترفع من درجة التساؤلات وتزيد من عمق الشعور بكليشيهية الرأي. «أنا لا أرى سوى كل الإنصاف للمرأة في الدين الإسلامي، وكذلك بقية الأديان»، قال أحد الموجودين. «الإسلام أعز المرأة وأولاها كل حقوقها، وما معاناة اليوم سوى بسبب الابتعاد عن الدين الإسلامي الحقيقي». لحظتها، ألحّ عليّ السؤال الذي انزلق إلى طرف اللسان: ومن يستطيع أن يحدد ما هو الإسلام الحقيقي؟ أي جهة هي المخولة بتحديد هذه «الحقيقية» الخطرة المهمة؟ كيف يمكن أن يستمر من يتصورون أنفسهم مدافعين عن الدين بتكرار الجُمل المقولبة ذاتها دون الشعور بضرورة تفعيل إنصاف الدين فعلياً للمرأة بالتحليل والتفسير المنصفين حتى لا يصبح الكلام هائماً والمعنى خاوياً؟
سحبت سؤالي من طرف لساني الذي لا يوردني سوى المشاكل، وفي المقابل بادرت بما قد يكون أكثر استشكالاً: «غير صحيح يا سيدي أن القراءات الدينية الحالية، لكل الأديان تقريباً، تنصف المرأة. الأديان برمتها لها طابع أبوي قوي نظراً لحقيقة أنها مقروءة ومفسرة من الرجال، ولذا فتفسيراتها تميل ميل التايتانيك في آخر لحظات غرقها تجاه الرجال. هل يتذكر أحدنا آخر مرة فسرت فيها امرأة القرآن أو قدمت فتوى معتمدة؟» تباعدنا سريعاً عن الدخول في متاهات الموضوع حفاظاً على لطف الجلسة، إلا أن غضباً كامداً بقي متقداً في صدري، كيف يمكن للناس أن تلقي بجمل مقولبة هكذا دون تبصر حقيقي بأوضاع النساء في العالم الإسلامي، ودون التعامل الواقعي مع المشكلات الخطرة والعميقة التي تظلل حيواتهن نتيجة القراءات الدينية المتطرفة التي تحكم معظم قوانين الأحوال الشخصية في هذا العالم؟
منذ أن تولد المرأة وهي مشكلة في المجتمع العربي، لتنزلق فكرة استشكاليتها الاجتماعية على كل التفسيرات الدينية الإسلامية في هذا العالم الداكن، ولترفع من درجة معاناتها أضعاف الأضعاف. لا تدخل المرأة في مؤسسة الزواج باختيارها كما أنها لا تخرج باختيارها، وما تشريع الخلع سوى إضافة للشعور بالارتهان في هذه المؤسسة التي لا يمكن الخروج منها سوى بافتداء النفس بالمال. لا وصاية للمرأة على أبنائها، لا يحملون اسمها ولا يتبعون دينها، لتنعكس هذه المنظومة الفكرية على التشريعات المدنية، ليصبح الأب الوصي الطبيعي المتحصل على أي مميزات، مثل علاوات الأبناء، وحق السكن، وغيرها من الحقوق التي يفترض أنها مكفولة للأسرة، وليكون هو الآمر الناهي في كل ما يخص هؤلاء الأبناء بدءاً من وضعهم المالي، ومروراً بكافة مواقعهم الاجتماعية، وانتهاء بكل القرارات الصحية التي ليس للأم أي يد أو أثر فيها.
تتعلق كثير من النساء سنوات طويلة على حبال «النشوز» إذا رفضن العودة للزوج، أو يزج بهن بدم بارد في بيوت الطاعة. تعاني كثير من النساء من الاغتصاب الزوجي والعنف الجسدي المبررين بأنهما من حق الزوج، فحقه في جسدها غير قابل للجدل ومدفوع القيمة، وحقه في تأديبها مكفول بقراءات شبه متفق عليها للنص القرآني. والمرأة في الأديان هي مصدر الإغواء ومنبت الفساد، ولذا تقع عليها، وعليها وحدها، مسؤولية حماية الرجل من نفسه، بالتغطية والتستر. والمرأة المتهمة بالعاطفية والانفعال النفسي عليها أن تتحمل أن يثنّي ويثلث ويربع الرجل عليها، هذا غير القنوات المفتوحة بلا حدود من زواجات المتعة والعرفي والمسيار والمسفار والفريند وما سيأتي منها من تقليعات مستقبلية، حيث هي المرأة ذاتها، بكل عاطفيتها وهيستيريتها وانفعالها، التي ألصقها المجتمع بها، مطلوب منها الصبر على زلات الرجل «الذي سيعود في النهاية لها» والستر عليه وعلى مغامراته والرضوخ لطلباته، الجسدية منها وغير الجسدية، فيما هو «ينظف سيستمه» من كل شهواته وتصابيه، فإذا امتنعت غضباً أو قرفاً أو ثورة لكرامتها لعنتها الملائكة وكانت من الآثمات.
والمرأة ترث النصف، لأنها «مكفولة» من رجال عائلتها، وكأن هذه ميزة أو إضافة أو حتى واقع حياتي. والمرأة لها نصف الشهادة، لأنها ذاتها الهستيرية الانفعالية التي، في مفارقة عجيبة، للتو صبرت على خيانات زوجها وعلى كفه الذي سقط على خدها. والمرأة غير ذات وصاية على نفسها، يتحكم فيها أبوها وأخوها وعمها وخالها وأي ذكر آخر يمت لها بصلة دم، فقط لأنه ذكر، خلقه الله بتلك الذكورة التي لم يكتسبها وليس له أي فضل فيها، وفي أحايين كثيرة لم يضف عليها أي إضافة أخلاقية إن لم ينتقص منها. والمرأة لا تتزوج على غير دينها، في حين يتزوج الرجل من يشاء من غير دينه، لأنه الأقوى أيديولوجياً بل ويبدو حتى بيولوجياً، فالدماء التي ستسري في أجساد الأبناء يبدو أنها بكرياتها الحمراء والبيضاء ستحمل دينه وفكره، في حين أن دماء النساء مائعة مخففة، لا تثقل عروق الأبناء ولا تسري فيها بذات الكمية والقوة. ومن غير المستحب، إن لم يكن محرماً، خروج المرأة للمجتمع العام، فحتى كعب قدمها مصدر إغواء، وحتى صوتها عورة، وحتى ضحكتها إثم مبين. كل لحظة وتفصيل في حياة المرأة أمر استشكالي، كل فعل محسوب، مشرع له، موصى عليه من ذكر، يراقب ويوجه ويعاقب إذا ما استدعى الأمر. ويبقى أن الدين، بقراءاته الحالية وفي القرن الواحد والعشرين، ينصف المرأة، هكذا تلقى الجملة بسهولة وأريحية والكثير من التبجح على المرأة، واللامبالاة تجاه معاناتها.
المرأة تحتاج لأن تقرأ النصوص الدينية وتفسرها لتنصف نفسها بنفسها، ذلك أن الرجال لن ينصفوا المرأة أبداً بتبنيهم لقراءة عادلة متطورة للنص الديني وتخليهم عن نظام تفسيري وتأويلي يخدمهم لأبعد حد. النص القرآني الجاري كالمياه النقية المستمرة في تدفقها قابل لإعادة القراءة والتفسير والتطوير الذي يفترض به أن ينحو لخلق نظام أكثر توازناً وعدالة. وإلى أن يتحقق ذلك، فلنكف عن تكرار جمل ملصقاتية، لا تفعل سوى أنها تنكأ الجراح وتستهين بالعذابات.