للتاريخ ذاكرة انتقائية، نظرة خاصة للأمور يحكمها البعد الزمني الذي يجعل الرؤية الأبعد أكثر وضوحاً. ترى، كيف سينظر التاريخ لأحداث الكويت الحالية؟ كيف سيقيمنا أبناؤنا في عمق المستقبل؟ هذه الحقبة من تاريخ الكويت مليئة بالعنف، بالاعتقالات، بالخلافات، حقبة معجونة بانقساماتنا، بفساد يعج في مؤسساتنا، بآلام تركد بيننا، ترى على من سيلقي التاريخ باللوم؟ علينا كشعب، على الحراك السياسي، الحراك الشعبي، مسلم البراك، المعارضة، أم ستؤخذ الحكومة والنظام بجريرة الوضع؟
للتاريخ نظرة موحدة في الموضوع، فهو دائم الإشارة بأصابع الاتهام للحكومات، وهو يفعل لأن المنطق يشير بذات الأصابع لذات الجهات. القيادة هي دوماً المسؤولة حتى عن خراب معارضتها، فهي الرأس الذي إذا ما تضخم وتصلب ترنحت أسفله بقية الجسد، لم تكن معارضة المجلس المبطل بكل مساوئها وانحدار لهجة خطابها وتعنصرها الطائفي والقبلي سوى حصاد سنوات من التحالفات المشبوهة والمعاملات المريضة بينهم وبين حكومات اعتقدت أنها تؤمن نفسها بهم، فإذا بها أول من يتذوق مر الحصاد ويتجرع علقمه، ولو وقف الأمر عند هذا الحد لقلنا “فخار يكسر بعضه” إلا أننا في الواقع نتجرع معهم دون ذنب لنا سوى سلبيتنا وسكوتنا.
ولكن، وبعد قول كل ذلك، يظل حتى أسوأ رموز المعارضة المبطلة مواطني دولة يستوجب أن تكون ديمقراطية، ويبقى حراك المعارضة والمقاطعة الحاليين حراكا شعبياً وقوده ألم وامتعاض ونفاد صبر. إنه لمن قصر نظر الحكومة وسوء تقديرها أن تبقى تروج لفكرة أن المعارضة في الشارع ما هي إلا أتباع لنواب المجلس المبطل، إنه لمن السذاجة أن تعتقد أنها بتشويه الحراك وعزله ستحل المشكلة وتقضي على “الإزعاج”، إنه لمن الإهانة أن تستمر الحكومة في كنس المشاكل حتى سجادة عنصرية، فتشير الى أبناء شعبها على أنهم حضر وبدو، متطرفون ومتحضرون، حتى لتقلبنا على بعض وتنسينا خطاياها ونواقصها.
من ينزل إلى المسيرات، ومن يقف في الاعتصامات، كويتيون لديهم ما يقولونه، فإذا ما بقيت الحكومة تعمل في عزلهم على أنهم من فئة مخربة تابعة لا تستحق الانتباه فإنها تلعب لعبة خطيرة ستحرقها وتحرقنا جميعاً معها. أياً كان الرأي حول ما تقوله المعارضة أو حول أسلوب قولها، تبقى معارضة من كويتيين، لهم الحق في بلدهم، في المشاركة في صنع القرار، في آذان الحكومة الصاغية. إن كل ما يحدث اليوم لهو نتاج غياب الدبلوماسية في التعامل مع الوضع، في المحاولات المستمرة لعزل وتقسيم الشعب، في وضع المواطنين في مواجهة بعض، ثم المواطنين في مواجهة الأمن، ثم المواطنين في مواجهة القضاء، في حين، لو أن الدبلوماسية والحكمة المرنة استخدمتا للتعامل مع الوضع لكانتا أكثر تأثيراً ونفعاً حتى من “الحق” المتصلب الذي يرتطم بالواقع ويتكسر على صخوره.
لقد صرح مسلم البراك برأيه، واستخدم كلاماً يدينه، مع اعتقادي بأن الكلام يجب ألا يدين وأن الرأي يجب أن ينطلق حراً حتى إن كان رأياً سيئاً، وكل “نضال” كما صوره البراك، له ثمن، واليوم حان وقت الدفع. لذا كان الأجدر بالبراك الذي صرح سابقاً أنه “ولد لهذا اليوم” أن يتحمل تبعات “اليوم” ويدفع ثمنه، إلا أنه، وبعد قول كل ذلك، فإن هذا العداء تجاه البراك وهذه المواجهة القضائية معه ومع هذا الجزء من المعارضة التي تراه رمزاً لها ما هما سوى دلالة قصر النظر وسوء التقدير اللذين سيقوداننا حتماً الى سوء المنقلب. كان الأجدر الجلوس على طاولة الحوار، كان الأجدر محاولة حل المشكلة بدبلوماسية عوضاً عن الدفع بأطرافها لمواجهة بعض بهذه الصورة، صورة عززت بطولة مزيفة وستخلد سمعة سيئة لهذه الحقبة من تاريخ الكويت، كان الأجدر الاستماع لأبناء البلد دون أن تحيدوهم وتعزلوهم وتضعوا ألف “ليبل” عليهم. كان الأجدر عقد صفقة مع الرموز السياسية ومحاولة تهدئة الأوضاع ولو كان الثمن “بلع موس”، فهؤلاء صنيعتكم، وبطولاتهم زرعكم، ورمزيتهم اليوم حصادكم المسمم. أنتم خربتم الدنيا، أنتم تعدلونها.