مؤمنة أنا تماماً أن ردة الفعل الأولية دائماً ما تعبر عن مكنون النفس الحقيقي، أعتقد بصدق الغضب والألم، في عموم ردة فعل الشارع، عن كونهما مظهرا يفضي إلى مصلحة. لذا، فأنا أقدر وأتفهم الغضبة الحالية للمساس بالرمز الإسلامي الأول المتمثل بشخص الرسول الكريم وبشخوص أهل بيته. فألم الطعنة حقيقي، والشعور بالإهانة حقيقي، والشعور الطاحن بوجوب إعلاء الصوت اعتراضاً يجوب ثنايا النفس. لا أشكك في ألم المتألمين ولا في قسوة الحدث على نفوسهم، لكن المشكلة، وهي مشكلة اجتماعية ونفسية حقيقية، تكمن في حجم ونوعية رد الفعل.
ليس هناك ما يعادل أهمية العقيدة ويزن ثقلها في النفس البشرية، والعقائد الدينية على الرغم من كونها في أصولها مناهج فردية للتواصل بين الإنسان وخالقه، فإنها تزدهر وتقوى بالممارسات الجماعية والمساهمات الفكرية للأفراد. وكما أنها تزدهر، فإنها تستعر كذلك بالتحريض الجماعي، فعندما يتجمع أصحاب عقيدة غضبةً ونصرةً لعقيدتهم، فإن أول ما يأخذهم عن طريق المنطق هو المشاعر المتأججة الجياشة التي تقول لهم إن الموت يحلو دون العقيدة، والقتل يصبح رحمة وفضيلة. هكذا رأينا تاريخ الأديان، هكذا رأينا الحروب تستعر والجيوش تنتشر، عندما تتأجج الجموع ذوداً عن معتقدهم، فيباح كل ممنوع ويستحب كل مكروه.
إلا أن إنسان القرن الحادي والعشرين، وهو نتاج تجارب إنسانية طويلة ومريرة، فهم أن هذا الصراع لن يخبو، والألم لن ينتهي بمقابلتهما بالمزيد من الصراع والعنف. فهم الإنسان الحديث أن الخالق مسؤول عنه، وأنه غير مسؤول عن الخالق، أن الرموز الإنسانية ستبقى رموزاً مهما قيل في حقها، وأن آخرين سيقولون في حقها، لن ينتهي التقول ولن تتوقف التراشقات ولن تترقق قسوة، بل بغض ووقاحة، بعض النقد الإنساني. هكذا نحن البشر، منّا من يترفق ومنّا من يتشدد، منّا من يحترم ومنّا من ينتقم، منّا من ينتقد ومنّا من يهين، بل تبقى كل تلك التوجهات محكومة بوجهات النظر، فإن من يعتقد هذا ترفقاً يراه غيره تشدداً، ومن يتصور ذاك انتقاداً، يراه آخر شتيمةً وإهانة. لن نتفق، ولن نتوصل في يوم إلى تعريف جامع للنقد المحمود والحدود المقبولة، تلك هي طبيعتنا الإنسانية، وما هذه الثنائية بين الخير والشر والطيب والخبيث والقاسي والرقيق سوى جزء أساسي منها لا تكتمل إنسانيتنا بدونها.
لذا، أن يغضب الإنسان لمعتقده، أن يحتج ويعتصم، أن يكتب وينشر ويبشر، كلها انفعالات وردود أفعال بشرية متوقعة وأحياناً مطلوبة تجاه المساس بالعقيدة، لكن أن يتجمع وأترابه صارخين تاركين العنان للغضبة البشرية البدائية تأخذهم للمناداة بقتل من مس بعقيدتهم، فتلك ردة فعل مريضة تدلل على خطورة المنحنى الذي يعبره المجتمع بسيارته المندفعة والتي يقودها سائق متهور معصوب العينين.
لا يمكن لإنسان عاقل متزن أن يجد فضلاً في المساس البذيء بالمعتقد أو حتى مساحة قبول لهذا التوجه المريض، ولكن لا يمكن لإنسان عاقل ومتزن أيضاً أن يطالب بحز رقاب المسيئين مهما بلغت إساءتهم، فالإساءة بالرأي، مهما بلغت، لا تقابل بالقتل، فلا شرائع الخالق قالت بذلك، ولا أحد من رسله ولا المنطق ولا الإنسانية ولا حتى الرحمة الغرائزية يمكن أن تقر بهذا التنادي المجنون.
فبين مسلمينا، ومنهم من خرج محتجاً لساحة الإرادة مطالباً بسفك الدماء، من يشتم اليهود والمسيحيين ليل نهار، من يدعو عليهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، من يلعن البوذيين، ويحتقر الهندوسيين، بينهم من اضطهد البهرة عندما منعهم دار عبادتهم، بينهم من طالب بهدم الكنائس ومنع التواصل مع أصحاب الأديان الأخرى حتى بالسلام والتحية والتهنئة، فهل يمكن أن نطالب بقتل كل هؤلاء؟ هل يعقل أن ننصب مقصلة و”هات يا ذبح” على أساس قول أي متطرف جاهل؟
الحقيقة القاسية الواجب مواجهتها هي أنه ما أطلق البذاءة وأشعل شرارة الطائفية سوى “حماة الدين” أنفسهم، فلم يكن عندنا في الكويت مغالون في يوم، ولم يكن بيننا شتامون، وما خلق هؤلاء سوى أولئك. فعندما يشرع لنا الطائفيون، عندما يقرؤون كل تشريع وينظرون لكل تحرك ويفسرون كل تنهيدة على أنها منطلقة باتجاه طائفتهم لأنهم لا يحملون سوى همّ الطائفة ولا يرون إلا من خلال منظارها، عندها ينعكس هذا الفكر على الناس الذين لا يلبثون يحملون ألسنتهم خلف نوابهم، يزمجرون بالغضب والعنف، ويتبادلون الشتائم والبذاءات. نعم، لو لم يكن لدينا نواب طائفيون، ولو لم تنعكس سياساتهم على الشارع، لما ظهر لدينا مغرد بذيء أو كاتب مقال وقح يسير على ذات النهج ولكن بالاتجاه المعاكس.
صنع أياديكم أيها السادة، صنع أياديكم.