دلالات عدة غاية في الخطورة يشير إليها تأييد وتعاطف نسبة لا بأس بها من الشارع الكويتي مع أسامة بن لادن، فالظهور الإعلامي ترحماً عليه والنشر الإلكتروني تعاطفاً معه وصولاً إلى محاولات تأبينه التي استدعت العنف بين أبناء البلد الواحد، كلها تشير إلى ظواهر تستدعي التعامل الفوري معها.
أولى هذه الظواهر هي المتعلقة بالتحالف الحكومي والأصولية الدينية، وهي حالة منتشرة في دول الشرق الأوسط ترمي منها الحكومات إلى تعزيز حكمها بفتاوى جاهزة على المقاس، وترمي منها الأصولية إلى تعزيز نهجها بحد السيف العسكري سابقاً والسياسي لاحقاً. في الكويت، تأصلت هذه العلاقة بين الطرفين، لكل طائفة نصيب، حتى نما الوحش الأصولي وتصلبت أجنحته فانقلب على الحكومة التي أطعمته في السابق، ثم انقلب إلى الداخل في صراع سنّي شيعي، فالأصولية بتعريفها، لا تحتمل التعددية ولو كانت تعددية في التطرف والترهيب والقمع الديني، فبطبيعتها، لا تقبل الشراكة ولا تحتمل الرأي والرأي الآخر حتى لو كان ذلك الآخر يساندها في تطرفها.
هذه الظاهرة السياسية، انقلبت داخلياً إلى ظاهرة اجتماعية تشكلت من خلال مناهج دراسية تعزز التطرف والطبقية وتغذي النظام الأبوي التسلطي في كل مناحي الحياة. انقسمنا اجتماعياً ونفسياً وفعلياً، انعزلنا في مناطق مختلفة، قسمنا بيوت الله، عقدنا روابط الزواج بين شباب المذهبين، فرقنا بينهم في فرص عملهم وتطور مستقبلهم على أساس طائفتهم، عمّقنا مفردات طائفية نتراشق بها لغوياً، وكأن كل ذلك لا يكفي، أكدنا هذه الفرقة بملصقات نشوّه بها جدران أبنيتنا وسياراتنا بشكلها القبيح ومفرداتها الغارقة في التطرف.
هذه الظواهر السياسية والتعليمية والاجتماعية صُبت كلها لتغذي ظاهرة نفسية حزينة تسفر عن إصابة نسبة لا بأس بها منا بمرض نفسي خطير متمثلاً في التعاطف مع منهجية سفك الدماء كتبرير لنشر العقيدة، والتوق إلى البطولة وإلى أمجاد ماضية ليس لها مكان في العالم المعاصر، وتمجيد، إلى حد تقديس، شخصية المجاهد الثوري الساعي إلى الموت، والاشتياق إلى نوع المجتمع المرعب الذي يخلقه هذا «المجاهد»، مجتمع قاتم ينتهج القتل وتطبيق «الحدود» في الشوارع، يكره المرأة ويبصق «الآخرين» المختلفين عنه بأي شكل أو لون.
بلا شك، كل ما سبق يمثل حالة نفسية مرضية خطيرة، لا أدري إن كانت لفظة «الشخصية السيكوباتية» تصلح لصاحبها، ناتجة عن تواتر الظروف المتطرفة الاجتماعية والسياسية والتعليمية على المجتمع، والتي أفرزت بدورها «رجال دين» يستخدمون الدين بحد ذاته لتأبين القاتل، وإعلاميين لا يتورعون عن إظهار حزنهم لموت «بطلهم الإسلامي»، وأشخاصاً عاديين يتعاركون في بيت الله محاولين الوقوف بين يديه ليصلوا صلاة الغائب على سفاح مجرم، وشباباً صغاراً يذرفون الدموع إلكترونياً على سقوط قاتل محترف، وأخيراً وليس آخراً كاتبة مقال تتمنى، برغبة مريضة، أن تكون من ضمن حريم السفاح، تعيش في الكهوف وتنتظر دورها لتشبع توقاً ما في نفسها يحتاج إلى تحليل نفسي لفهمه.
هذا الاشتياق الجمعي، ليس فقط للقتل وسفك الدماء، ولكن كذلك لحياة التقشف والجفاف اللاإنساني وإظهار هذا الاشتياق على أنه من روح الدين الحق ما هي إلا دلالات على أمراض نفسية غارقة في الخطورة، غذتها حكومات الشرق الأوسط، وعززتها مناهجها الدراسية وصلّب عودها نهجها الاجتماعي الناتج عن سياساتها وتعليمها في دائرة مغلقة مقيتة بين الثلاثة محاور لا يبدو أن هناك فكاكاً منها.
مما لا شك فيه أن القتل، ولو كان تخلصاً من سفاح، ليس فعلاً أخلاقياً مقبولاً، والفرح بموت إنسان ولو كان عدواً طاغياً ليس من شيم الإنسانية، ولكن نعي مجرم قاتل والدعاء بقبوله شهيداً والتودد لمسيرة حياته الإجرامية بتمني الانتماء إليها، تعد جميعها ليست فقط خروجاً عن الأخلاق الإنسانية بل دخولاً في حالة نفسية مرضية حيث يتضاد الإنسان وغريزته الطبيعية في حب البقاء وتمني السلام والاتجاه إلى الخير والطيب كجزء من السيكولوجية الإنسانية الطبيعية. أعتقد أننا نعيش حالة مرضية جمعية تنحو بنا إلى العنف، نراها في أصغر مظاهرها عندما يتطاحن سائقو المركبات في الشوارع بعنف وغلظة إلى أخطر مظاهرها عندما يمسك بعضهم بتلابيب بعض في بيت الله الرمز الأعظم للسلام والمحبة. حالتنا خطيرة تتطلب مشرطاً حاداً عاجلاً، فمن يجرؤ ويبدأ؟