أستمع هذه الفترة في محاولة للترفيه عن النفس لحوارات المذيع البريطاني بيرز مورغان التي تذاع عبر البرنامج التلفزيوني “صباح الخير بريطانيا” والمسجلة على اليوتيوب. مورغان ترك مؤخراً البرنامج بسبب اختلافه مع القناة على إثر آرائه التي طرحها في البرنامج تجاه ميغان ماركل بعد مقابلتها الشهيرة مع أوبرا، إلا أنه لم يترك لذاعته التي لازالت تصاحبه في كل حديث يدلي به.
ومورغان هو مثال للمذيع والإنسان المزعج جداً بالنسبة لي شخصياً، فهو سليط اللسان، متعجرف الآراء، من النوع الذي يصر أنه دوماً على حق، هذا بخلاف أن له آراء سياسية واجتماعية وجندرية تضعه في خانة اليمين المحافظ في المجتمع البريطاني مما يضعنا أنا وهو، مع فكاهية مقارنة شخصي المتواضع به، على طرفي النقيض. المثير للانتباه أن هذا الرجل اليميني المحافظ في مجتمعه الغربي، سيبدو متحرراً شاسع التقدمية في مجتمعاتنا التي فاتها قطار الحوارات المدنية والحقوقية والفلسفية الحديثة. وعموماً وعلى الرغم من نفوري من مورغان أسلوباً وموضوعاً، إلا أنني لا أستطيع أن أخفي انبهاري ليس فقط بالمواضيع التي يناقشها برنامجه ولكن كذلك بأسلوب المحاسبة السياسية التي يتبناها مقدمي البرنامج والذين أقساهم هو مورغان بالطبع.
تتدرج مواضيع برنامج “صباح الخير بريطانيا” من تلك التي هي غاية في الحساسية وصولاً إلى تلك الغاية في الطرافة. أحد أهم المواضيع التي يناقشها البرنامج باستمرار هو التصنيفات الجندرية، حيث أنه يتم اليوم، بما يزعج مورغان جداً، تداول قائمة في بريطانيا تعرِّف ما يقترب من مئة تصنيف جندري تعدياً للذكورة والأنوثة كتصنيفين أساسيين بل وقديمين لا يستوعبان التنوعات البيولوجية والنفسية البشرية الأخرى. على الطرف الآخر من الجدية، ناقش البرنامج في إحدى الحلقات التمييزات اللغوية ضد الحيوانات مثل مثلاً استخدام لفظ خنزير سلباً لوصف شخص ما، وهو ما يعد تمييز لغوي له تبعات خطرة على الخنازير كحيوانات بريئة حسب رأي الناشطة التي استضافها البرنامج. وعلى الرغم من الأهمية اللغوية والحقوقية للموضوع، إلا أن ردود مورغان الساخرة حول “جرح مشاعر الحيوانات” جعلت من الكوميديا عامل رئيسي وجاذب في ذلك الحوار. في حلقة أخرى، استضاف البرنامج ناشطة رفعت قضية على مصور قام بتصوير عدد من القرود، مطالبة بحقوق ملكيتهم للصور، بالطبع لم تنجو الضيفة من سلاطة لسان مورغان وعنف تعليقاته.
إلا أن مصدر انبهاري الحقيقي ليس هو شخصية مورغان المثيرة للجدل ولا هو المواضيع الباهرة الحساسية التي يطرحها بكل وضوح ولذاعة وقوة والتي لا يمكنني تخيل مجرد الاعتراف العلني بوجود آثارها في مجتمعاتنا، إنما مصدر الانبهار الحقيقي بالنسبة لإنسانة مثلي ترعرعت في الشرق الأوسط هو تلك الأريحية الغريبة التي يتكلم بها مورغان وغيره من الإعلاميين البريطانيين والغربيين عموماً مع وعن السياسيين والقياديين في بلدانهم. ليست هذه المرة الأولى التي أشهد فيها هذا “التحقيق” الإعلامي اللاذع الذي لا يرحم بالتأكيد، فأنا ولدت لزمن تحرر فيه الغربيون من عقدة السياسي، ليتحول في عرفهم من قائد معظم مبجل لا يعصى له أمر ولا تُخالف له كلمة، إلى مجرد موظف دولة، يسدد الشعب ضريبياً راتبه من جيبه، مما يجعله، بكل مرموقية مركزه وسلطته وقواه السياسية، مشاع لمحاسبتهم ونقدهم وقسوتهم. إنما هي برمجتي العربية التي لا تزال تتلعثم حيثياتها ليضربها ألف فيروس ما أن تشهد مثل هذه المحاسبات القاسية للمسؤولين، ترتعش فرائصهم أمام “السلطة الرابعة”، يرتبكون ويتأدبون ويمسكون أعصابهم لآخر درجة في حضرتها، ويلتزمون بالإجابة على كل سؤال موجه لهم مهما بلغت قسوته أو صفاقة كلماته من القائمين عليها. يا حزني علي وعلى أمثالي ونحن لا نستطيع أن نتابع هذه المشاهد الإعلامية إلا وقد تدلت حبال المشانق من مخيلاتنا فوقها، يا حزني علينا وعلى شعوبنا التي هي مصدر “السَّلَطات” جميعاً.
يستضيف مورغان في برنامجه السياسي من هؤلاء لحماً ولا يتركه إلا عظماً، لا تأخذه فيه رحمة ولا شفقة ولا تنازعه فيه لومة لائم. تتسارع أنفاسي وأنا أسمعه يحاسب وزير الصحة وكأنه عامل في منزله أو وهو يستجوب المتحدث بإسم رئيس الوزراء حول احتمالية غياب الأخير عما يسمى “وقت استجواب رئيس الوزراء”، وهو وقت مخصص من ظهيرة أربعاء كل أسبوع مع وقت انعقاد مجلس العموم ليوجه من خلاله الأعضاء أسئلتهم لرئيس الوزراء، ذلك أن تغيب الأخير، رغم أنه قد يكون بسبب من احتمالية إصابته بوباء الكورونا، لا يمكن أن يٌقبل ببساطة.
يؤكد مورغان أنه من حق الشعب المعرفة الأكيدة بإصابة رئيس الوزراء حتى يكون له حجة معتبرة للتغيب عن هذا الحدث المهم، وأنه من حقه هو كبريطاني كما هو من حق كل الإعلام وبالتالي كل الشعب، المعرفة الأكيدة، ليس باستتباب صحة رئيس الوزراء “طال عمره”، وإنما بدرجة تدهورها الحقيقية التي تبيح له هذا التغيب. لا سن ولا مقام ولا مركز يسرق شيئ من حق الشعب في المحاسبة القاسية. يا سلام، أساطير سياسية بالنسبة لنا هي تلك.حلقة بعد حلقة أمر عليها وأنا أراقب، ضاحكة من نفسي، تصاعد خوفي، بل وأكثر من ذلك، تراكم إحراجي من هذه الاستجوابات الإعلامية الحارقة والتي لا تأخذ بعين الاعتبار لا المركز المرموق ولا المرحلة العمرية ولا حتى الدرجة العلمية للضيف “المنكوب”. من يجلس أمام الكاميرا يتحمل كل استحقاقات السلطة الإعلامية، ومن لا يريد أن يجلس لا مكان له في الحكومة البريطانية. مخاطبة الشعب والرد على استفساراته وتحمل غضبه وقسوته بل وإهاناته كلها ليست طيب من المسؤول، بل هي جميعها من أصول واجباته، لا، والمنة عليه كذلك. مساكين نحن..