تحدث الدكتور ريتشارد دوكينز في الكثير من مقابلاته ومناظراته حول غرابة الحدود التي يرسمها الناس في موضوع حرية الرأي في الغرب، فالنقد مقبول في مناحي الحياة كلها، يحق لك أن تنقد القائد السياسي مهما علت مرتبته، يحق لك أن تتكلم في الأصول والأعراق، يحق لك أن تقسو في نقد العائلات مهما بلغت «عراقتها» حتى أن العائلة المالكة البريطانية هي الأكثر عرضة للنقد والسخرية وأحيانا كثيرة للتجريح القاسي من دون أدنى اعتراض من قارئ أو مستمع أو مشاهد تقديسا لمبدأ حرية الرأي وإحتراماً للرحلة الطويلة القاسية التي قطعها الغرب وصولا لعتبات هذا المنهج العظيم،
إلا أن النقد الديني لا يزال موضع حساسية ومصدر إساءة لمعظم المتدين حتى وهم يقدسون حرية الرأي والتعبير في المناحي الأخرى من الحياة كافة. يتساءل دوكينز عما يعطي الموضوع الديني قداسة تفوق كل موضوع آخر، ما يجعله محميا من النقد من دون المختلف من الآراء والفلسفات، ما يضفي على رجل الدين تبجيلا يحوطه ويرفعه عن غيره من الناس، حتى أنه ليكون مقبولا عند الكثيرين أن يُشتم آباؤهم على سبيل المثال ولا أن يشتم قساوستهم. السؤال يمس العمق البدائي للنفس الإنسانية التي سرعان ما تميل لتقديس الآخر المتحدث باسم الإله، تلك النفس التي كانت منذ آلاف السنوات، ولازالت لحد الآن سهلة التطويع والبرمجة، سريعة النزول عند عتبة الخرافات والأساطير.
في المجموعات الكثيرة على برنامج «الواتس آب» على التلفون، يرسل المشاركون كميات لا حد لها من الأدعية والمقتطفات القرآنية والقصص الدينية ثم من الخرافات والأساطير والأكاذيب المراد بها إخضاع وترويض الناس إما بإبهارهم أو بإرعابهم. لا تتوقف هذه الرسائل ليل نهار، تلح على التلفون كأنها وساوس قهرية تتردد وتتكرر لكي تغسل الأدمغة وتبرمجها، حتى أنها تصل لمرحلة فقد المعنى والطعم، فتصبح مجرد كلمات آلية متكررة يرسلها «المتنفعون» الراغبون في الحسنات بشكل آلي ملح يكاد يصل حد المرض العصابي. وعليه قررت أن أجرب منهجا جديدا بدأت من خلاله مناقشة ما يصل من قصص وأدعية، من حيث فحواها ومعناها وحتى توقيت إرسالها الذي، لكون الفحوى ديني، لا يبتئس المرسلون من تأخره، فيزجونه في رسائل ليل نهار، فجرا وظهرا من دون أدنى تمييز لخصوصية أو إحترام لراحة الآخرين. المذهل أن ردودي، وإن أتت متأدبة، ونقدي وإن أحسنت له اختيار الكلمات، تنطبع كلها جارحة عند المستقبلين. لِمَ، يساؤلني بعضهم، يجب علي أن أناقش كل رسالة تصل، لِمَ لا أتقبلها بروحانيتها حتى وإن كانت غير معقولة، لِمَ لا أستطيع الصمت والسكوت وأن أدع المرسل يرسل ما شاء؟ في النهاية أنا لن أخسر شيئا وسأحافظ في الوقت ذاته على مشاعر الآخرين. لكن هؤلاء الآخرين يخترقون خصوصيتي ويرسلون إلى تلفوني من المواد التي لا يتقبلها عقل أو منطق كميات هائلة من دون احترام لرغبتي الشخصية أو مراعاة لتوجهي. لَمْ يسألني أي من المرسلين عن رغبتي في استلام الرسائل، هم يتطوعون بها بثا إلى جهازي الخاص وفي كل وقت من اليوم، فلم يستوجب علي مجاملتهم في سذاجة وأحيانا خرافية رسائلهم؟ ولَمْ تجرح مشاعرهم أصلا حين أتساءل حول أو أنقد قصصهم الساذجة وأكاذيبهم (سواء علموا أم لم يعلموا بها) البينة؟ لِمَ يحق لهم إرسال رسائل تشتم الآخرين وتكفرهم، دعوات تطلب الموت والدمار لغير المسلمين، قصص خرافية تَكذُب على الوقائع، أدعية وصلوات ومقتطفات في أي وقت وتحت أي ظرف، ولا يحق لي أن أرسل مقطعا نقديا للدين أو ردا يفند الخرافات أو إجابة تبين سذاجة الطرح؟ لِمَ يجب علي تفهم جرح مشاعرهم حين الحديث عن عقيدتهم ولا يجب عليهم تفهم جرح مشاعري حين الحديث عن فكري الفلسفي؟ لِمَ هناك جرح مشاعر أصلا في حوار فلسفي لم أبدأه أنا ولم أفرضه ولم أتطفل به أساسا على آخرين؟
حين أرسلت هذه الصديقة فيلما يمثل واقعة مقتل الإمام الحسين ففندت الأساطير الواردة في المقطع، وحين أرسلت أخرى في مجموعة تلفونية مختلفة مقطعا يبرر موقف معاوية وأبنائه ففندت الفساد السياسي الذي كان سائدا، إبتأست السيدتان، ولربما كانتا لتتفقا لأول مرة في حياتهما على «مروقي» لو علمتا بموقفي المشابه منهما، وهو الاتفاق الذي لربما كان سيسعدني جدا: تُفرقهما الطائفة وتَجمعهما «زندقتي.» وأما الصديقة الثالثة التي فتحت باب الحوار وحاولت المجادلة حول معلومة في كتاب الخميني «تحرير الوسيلة» التي أصرت هي على استحالة ورودها وأصررت أنا على وجودها في الكتاب، فقد قررت أن تعود لمقلدها لتتأكد من الحقيقة، وبعد أيام عادت لنا بالرد: نعم المعلومة صحيحة وموجودة، إلا أن المقلد يقول إنها من قديم ما جاء في كتب الخميني وعليه لا داعي للحديث عنها. إنتابتني نوبة ضحك وأنا أخبرها بود بأنني سأتحدث عما أشاء وفي الوقت الذي أشاء، وإن كانت ممن تجرح منهم المشاعر حين ثبات الخطأ عليهم وظهور السذاجة على قصصهم، فلتوقف رسائلها، وكان لي ما طلبت. وهكذا تخلصت من رسائل مرسلة واحدة، بقي عشرة آلاف مرسل آخر. يا معين.