تبتهج نفوسنا مع كل عيد وطني يُقبل في فبراير السعيد، تتزين الأسقف ومن فوقهم السماء بالأعلام والأضواء والألوان التي تتنقل بين الأحمر والأسود والأبيض والأخضر، لتبتهج الأرواح وتتكاتف النفوس تحت علم هوية معشوقة، تحددها البقعة الجغرافية والامتداد الزمني والوجود الحالي والعشق الروحاني لهذه البقعة من الأرض. ومع كل إقبال لهذا العيد البهيج تحضرني كلمات هذه الشابة البدون، كلمات لا تغادرني أبداً إبان كل أيام فبراير: لا أعرف كيف يجب أن أشعر في هذه الأيام. أود أن أحتفل ولا أعرف كيف أحتفل. أشعر بفرح وغصة في ذات الوقت، أتجنب المسيرات، ولكنني أرفع العلم احتفاءً ومحبة. وفي كل مرة أنظر للعلم يرفرف فوقي أتساءل، أيشعر بانتمائي؟ هل لي هوية ألتمسها في خطوطه؟ كم هي قاهرة كلمات هذه الشابة بضياعها الهوياتي التام بين حب للوطن وشعور بالخذلان من المؤسسة التي تلفظها، وبقسوة أكبر، كل فبراير.
وها نحن نجدد المسير في سنة 2023، فأين نحن الآن بعد ما يقترب من الستين سنة من عمر هذه القضية الإنسانية الشائكة؟ في الواقع، نحن لم نقف حيث نحن، نحن تراجعنا، ومن خلال لجنة بعد لجنة وبمعية جهاز خَلَف لجهاز، تصاعدت المشاكل وتعمقت المظالم وارتفعت نسب الانتحار وازدادت محاولات الهجرة التي- وفي مفارقة عجيبة- تقاومها الدولة دون سبب مفهوم، والأخطر والأنكى أن الغياب الهوياتي تزايد أضعافاً مضاعفة حين تم إلصاق جوازات مزورة وهويات مُرسلة بالأفراد البدون في خطة ممنهجة لتحويل كل فرد منهم من عديم جنسية، إلى مقيم بصورة غير قانونية، في تجاهل صارخ لحقيقة أن أغلبيتهم يقيم في الكويت منذ ما قبل فترة الغزو وأسبق من ذلك. هذه السياسة التي تعتقدها الدولة تحل المشكلة حلاً سريعاً وفاعلاً، إنما هي تعمقها، وتصنع فجوة هوياتية وثبوتية خطيرة، تخلق أزمة دبلوماسية ملحة بين الكويت وبعض الدول التي يُلصق بهم مواطنين بغير إذنهم ودون التثبت منهم، وتزرع ألم وضياع بين فئة كبيرة وفاعلة في الكويت كان يمكن لها أن تكون في مكان مختلف تماماً كسند وإضافة وقوة بشرية للكويت.
ولننظر إلى التوالي الغرائبي والعصابي للأحداث إبان الخمسة شهور المنصرمة من زمننا وعمر القضية. في أكتوبر 2022 تقدمت مجموعتين كل منهما مكون من خمسة نواب بمقترحين بقانونين للحقوق المدنية والقانونية والاجتماعية للبدون. وفي آخر الشهر نفسه ذكر النائب ماجد المطيري أن من بين الاقتراحات قد ورد مقترح بتخصيص بيت الزكاة لمبلغ 200 دينار شهرياً لكل من له بطاقة سارية تثبت إعاقته سواء أكان كويتي، أو من أبناء الكويتيات أو من البدون. ليأتي ختام شهر أكتوبر بمقترح آخر من خمسة نواب آخرين بقانون جديد للحقوق المدنية والقانونية والاجتماعية. وهكذا انتهى هذا “الشهر النشط” مفعما بالمقترحات محملاً بها، أي تلك المقترحات، بقراطسيها، دون أن يتم البت فيها، ودون أي نتائج حقيقية لها.
في الأول من نوفمبر، أتت حزمة من الرسائل الواردة والتي أدرجها رئيس مجلس الأمة السيد أحمد السعدون على جدول أعمال جلسة ذاك اليوم والتي من بينها رسالة من اللجنة التعليمية تشير إلى ضرورة إجراء بحث ودراسة يعنيان بأسباب تدهور التعليم في الكويت. كما وأشارت اللجنة في خطابها إلى مشكلات التعليم بالنسبة “للطلبة من فئة غير محددي الجنسية” وضرورة التعامل معها، ليوافق المجلس على مضمون الرسالة ويكلف اللجنة بالتحقيق في الموضوع. في منتصف ذات الشهر قدم السيد أحمد السعدون مقترحاً بقانون لوضع حل نهائي وشامل لجميع طلبات الحصول على الجنسية يرتكز على عملية حصر كافة الأسماء المسجلة لدي اللجنة العليا للجنسية، مكتب الشهيد، والمعلومات المدنية، على أن يمنح كل من ورد اسمه في أي من هذه الجهات بطاقة مدينة فاعلة يجوز تجديدها لحين البت في الموضوع. تلى هذه الخطوة التي كان ينظر إليها على أنها مهمة ومؤثرة نظراً لطبيعة المقترح ومكانة مقدمه عودة مجددة لمقترحات قوانين الحقوق المدنية، لتتعدد تلك القوانين مرة أخرى في تطابق كبير في الفحوى، وهو تطابق يدل على اتفاق ضمني بين النواب بخطورة الوضع وإلحاحية الحل. إلا أن الموضوع عاد ليقف مجدداً عند مرحلة الاقتراحات وذلك حين تقدمت الحكومة باستقالتها، لتشل الحركة النيابية في الكويت ويعود الوضع للتجمد من جديد، ولتبدأ القصة من أولها مجدداً مع المجلس القادم في دائرة مغلقة عصابية من الدوران والتكرار.
هذه الهرولة العصابية المستديرة على نفسها، المتكررة بغرابة وكأن الأحداث مسجونة في دائرة زمنية منغلقة تكرر نفسها هي واقع حال عديمي الجنسية في الكويت، الأفراد الوحيدين في دولتنا الذين لا يمشي بهم الزمن في خط مستقيم، إنما يخطو بهم خطوة للأمام ثم خطوتين للخلف ثم يستدير ملتفاً على نفسه بسرعة مجنونة تعيدهم لدائرة الصفر في لحظة. أسوأ ما يحدث في قضية البدون أن لا شيء يحدث، لا خطوة تُتَّخَذ تُفعِّل تغييراً وتحمل معها المعضلة للأمام ولا عقلانية سياسية وإنسانية تتبنى تراجعاً فتدفع بها عودة للخلف ولو بشكل مؤقت، إلى ما قبل 1986 حين كان بدون الكويت كويتيين مكتملي الحقوق إلى حد كبير وإن كانوا بلا أوراق رسمية. لا شيء يحدث في هذه القضية الإنسانية الخطيرة سوى محاولات غريبة مستميتة لتحويل كل عديمي الجنسية، -حتى من لديه أوراق تذهب إلى سنوات 1920، حتى من حارب في المعارك القديمة، حتى من أُسر في الغزو، حتى من ينتمي للجيش الكويتي، حتى من له أم وأقارب كويتيين من الدرجة الأولى- إلى مقيمين بصورة غير قانونية، وهي المحاولات التي تُدخل القضية في تعقيدات شديدة الخطورة، عصية على التفكيك، عظيمة الأثر النفسي على المجتمع كله، اجتماعياً، سياسيًا، اقتصادياً وحتى دبلوماسياً. لقد تعقدت مشاكل المجتمع البدوني بشكل خارق، عصي على الفهم أو الحل اليوم، نظراً للتطبيق المستمر لإجراءات عظيمة الغرابة، شديدة البعد عن المنطق، إجراءات ترمي لحلول سريعة غير عقلانية تهدف لإخفاء المجتمع البدوني كله تحت العباءة السحرية لمسمى المقيمين بصورة غير قانونية، والتي، وبعد عشرات السنوات من محاولة فردها ولفها حول المجتمع البدوني، لم تنجح كحل مطلقاً، ولم ينتج عنها سوى المزيد من التعقيدات القانونية والإجرائية والعذابات الحياتية والنفسية والتشريد للأطفال والتخلي عن الحياة من الشباب والكبار. وهل يمكن لحل إقصائي جائر شمولي بهذا الشكل أن ينجح؟ هل من المنطق توقع أن يختفي الناس بمجرد تغيير تعريفهم وإلصاق توصيف مختلف بهم؟
من منطلق الأنانية البحتة نتساءل، أي صالح لنا فيما حدث ولا يزال يحدث تجاه قضية البدون على مدى عشرات السنوات الماضية؟ كيف أفدنا الكويت؟ كيف حافظنا على الهوية الوطنية؟ كيف أرضينا الخالق بأدائنا الأخلاقي؟ كيف أنصفنا بني جنسنا وحكمنا بالعدل ورحمنا وقدرنا الطاقة البشرية التي لدينا وأعدنا تأهيلها ورعينا أطفالها، مسؤوليتنا الأخلاقية والدينية الكبرى؟ أي خطوة خطونا وأي إنجاز أنجزنا، ليس على مدى الستين سنة الماضية، ولكن لينحصر السؤال في مدى الثلاث عشر سنة المنصرمة والتي هي عمر الجهاز المركزي؟ ماذا تحقق من كل المقترحات والتوصيات والرسائل المرسلة والندوات، والمؤتمرات والخطابات والمناشدات؟ كيف نقيم أنفسنا كمجتمع وحكومة ومجلس تشريعي وصولاً إلى هذه المرحلة، مرحلة إنجاز. . . لا شيء؟