ليست قضية فلسطين قضية إسلامية، الصراع الصهيوني الفلسطيني ليس صراعا إسلاميا يهوديا، ومن يدفع بالقضية إلى هذا المنحى إنما يصغر الدائرة على هذه المأساة الإنسانية، يحصرها في المسلمين فقط ويضع مسؤوليتها على عاتق العرب المسلمين تحديداً وفي ذلك مغالطة وظلم كبيران.
تظاهرنا أكثر من مرة هنا في الكويت، وشاركنا، وما زلنا، في المهرجانات الخطابية التي تعلي اسم القضية الفلسطينية رغم تحذلق المتحذلقين، ورغم تكسير المجاديف وتثبيط الهمم بالحديث ذاته المنصب في: “وما فائدة ما تفعلون، أنتم فقط تتكلمون، كل ما تأتون به لا تأثير له”. لا يعي هؤلاء المهزومون أن المساندة الإعلامية والتأييد النفسي والكلامي، وإن كانت جميعاً أضعف الإيمان إلا أنها صورة من صور المقاومة، نوع من أنواع المساندة الذي يحتاجه الطرف المقموع والمسروق حقه ولو عن بعد. يحقد هؤلاء الناقدون على أي جهد يقدم، فهذه الجهود تذكرهم بتقاعسهم وتؤذي ضمائرهم التي يفضلونها في سباتها راقدة، فتراهم يفضلون أن يقعدوك بجانبهم عن أن ينضموا إليك في أي جهد مهما بدا يسيراً.
ولكن ليس هؤلاء فقط هم كاسرو المجاديف، هناك النوع الآخر المذكور بداية المقال والذي يخرج في المظاهرات والاعتصامات صارخاً بالشعارات الإسلامية المهيجة للجماهير، مصغراً القضية إلى صراع يهودي إسلامي، ومحولاً المسؤولية عن ضمائر العالم إلى ضمائر المسلمين وحدهم. يعلي هؤلاء الصرخات سخطاً وبغضاً لليهود، اليهود ذاتهم الذين يعتصم بعضهم تأييداً للحق الفلسطيني في الولايات المتحدة على سبيل المثال، يخرج هؤلاء معلنين حرباً لن يشاركوا فيها قط: “القدس لن يرجعها سوى خليفة مسلم، القدس حق المسلمين الذي سيموتون من أجله، بالسيف، بالبندقية، سنحمي مقدسات المسلمين”، وهكذا يصغر هؤلاء أرض فلسطين وتراثها العميق من ذاك الشامل إلى أقصر وأقل تأريخاتها تأثيراً وقدماً: التأريخ الإسلامي.
حقيقة الأمر أن القدس لربما تكون ذات تراث يهودي ومسيحي أكثر منه إسلاميا. هذه المدينة هي منبع الدينين الأولين ولم تحوِ الدين الإسلامي إلا متأخراً في التاريخ الإنساني. إن كان الصراع صراعا دينيا فسيخسر المسلمون تاريخياً، وإن كان الصراع عرقيا فسيخسر العرب أقدميةً. فلسطين دولة متنوعة، قطنها العرب وغير العرب، وتجذر فيها المسيحيون واليهود ومؤخراً المسلمون، الموضوع ليس دينيا والصراع ليس على الأقدمية، صراع اليوم حقوقي إنساني خالص وإن كان ذا زاوية عربية بحتة. نعوم تشومسكي تكلم حول هذه الجزئية، مشيراً إلى أن فلسطين تنتمي إلى أعراق وأصول عدة كل منهم له نصيب فيها، إلا أن العرب حالياً هم الأحق بالأرض من حيث إنهم قطنوها مؤخراً ولربما للمدة الأطول ومن حيث امتلاكهم أراضيها على مدى أجيال. ليست الحجة العربية حجة أقدمية بل هي حجة ماض قريب كان العرب فيه هم أغلبية متعايشة بدياناتها المختلفة. وعد بلفور أتى ليغير هذا الوضع المميز للتعايش والسلام حين أعطى، في صفقة وقحة، أرضا لا يملكها المتبرع لأصحاب ديانة لم يروا هذه الأرض قط، مؤسساً الدولة المشوهة الحالية المؤسسة باحتلال كولونيالي واضح والقائمة على مفهوم تمييز ديني ساذج وغائر الوقاحة.
من لا يريد أن يعلي صوتاً أو يفعل شيئاً فليصمت ويكفنا شره ويتركنا وجهودنا “المبددة” ومن يرد أن يعلي صوتاً ويفعل شيئاً فليوسع دائرة القضية لا يضيقها، ولينكش الضمير الإنساني العام لا يريحه، ولينادِ على البشرية كلها أن هذه مسؤوليتهم الأخلاقية الخالصة والمتمثلة في إنهاء هذه الصورة البشعة الوقحة من الاحتلال والتطهير العرقي والاستيطان والقمع لأصحاب الأرض. عندها وعندها فقط يمكن الحديث عن التعايش الديني والعرقي السلمي لكل الأديان والأعراق على أرض فلسطين، بعد الوصول فقط إلى حل عادل يعيد الحق لأصحابه وينهي حالة التغريب التي يعانيها الفلسطينيون على أراضيهم.
لم تخلُ فلسطين في يوم من حرب دينية، لربما مأساتها تكمن فيما يميزها: كونها مهد ثقافات دينية مختلفة وقبلة ثقافات دينية لاحقة، لكننا في وقوفنا لشد ظهر القضية يجب ألا ننجر للقراءة التاريخية للأديان وإلا سنكون خاسرين. قضيتنا أقوى وأشمل وهدفنا أوسع وأعم، هدفنا هو الضمير الإنساني أينما كان على سطح الكرة الأرضية. لم تعد شعارات الحرب الدينية والنداء بالعودة لتحرير القدس وكأنه فتح إسلامي جديد ناجعة، هذه النداءات تستبعد العالم بل تستدعي مخاوفهم ونفورهم. القضية أكبر، ومن أجلها فلنقل فيها خيراً أو لنسكت.