يعدّ انعدام الجنسية من أخطر الانتهاكات الإنسانية في العالم، والذي ذهب ضحيته ملايين البشر على مر الأزمنة، وخصوصاً بداية من القرن العشرين. يوجد في العالم اليوم ما يقرب من اثني عشر مليوناً من عديمي الجنسية، يعيشون بلا غطاء شرعي رسمي، بلا حكومة تحميهم أو سفارة تمثلهم أو سلطة تدفع عنهم شرور الدنيا وأذاها. يحيا عديمو الجنسية حالة عدم استقرار مستمرة، معلقين رمزياً، وكثيراً فعلياً، على حدود الدول وأحياناً في سجون الإبعاد ولسنوات طويلة دون بصيص أمل، دون تجاوب إنساني عادل رغم كل المؤسسات الدولية والإنسانية العالمية، رغم الوجود السابق لعصبة الأمم والوجود الحالي لهيئة الأمم، رغم امتدادهم المؤكد وانتمائهم الراسخ لبقعة وسلالة وثقافة. انعدام الجنسية هو إهدار لأثمن ما تملك البشرية، لهذه القوى والإمكانيات، لهذه الأيدي العاملة والعقول، لهذه الإنتاجية الثمينة المضافة. انعدام الجنسية هو أفقر ما أنتجته سياسيات البشر، وأبشع ما توارثته البشرية نتيجة لتشكيلها للدول الحديثة وتخطيطها لحدودها بشكل مبني، إلى حد كبير، على أفكار الأصل والعرق والأسبقية الوجودية والحكايات والصراعات التاريخية الغابرة.
تنتشر في دولنا العربية والخليجية ظاهرة انعدام الجنسية بشكل كبير وصامت، حيث لا أخطر من وقوعها سوى الصمت تجاهها. يعاني حوالي مئة وعشرين ألف إنسان في الكويت من انعدام الجنسية، ويعاني آخرون، ربما بأعداد مقاربة، من ذات الكارثة في دول خليجية وعربية مجاورة، إلا أنه لا تعداد واضحاً لهم ولا شفافية رسمية في عرض معضلتهم الحياتية الكارثية. في زمننا الحالي، تستمر ظاهرة انعدام الجنسية في الدول الأوروبية وفي أمريكا بسبب ما يسمى الهجرة غير الشرعية، أو بسبب العبور غير الشرعي للحدود، هذا إضافة لأسباب أخرى ممتدة من أزمنة الحربين العالميتين، مضافاً إليها كلها عنصريات وطبقيات كامنة تغذي هذا الإهمال القاتل. لكن الحلول في هذه الدول أسهل نسبياً، والحصول على فرصة للتجنس والانتماء أكبر بكثير من الفرص المتاحة في شرقنا الأوسط المسكين، الذي على علاته، يترفع عن أثمن ما يمكن أن يضاف إليه: القوى البشرية.
في شرقنا الأوسط لا تزال مفاهيم الأصل والعرق والانتماء الطبقي بل واللهجة واللون كلها تدخل في تقييم المواطنة، والتي هي فعلياً موضوع مدني حديث لا علاقة له بهذه التقييمات القبلية الغابرة. يدخل التقييم والفهم الدينيان على خط صناعة المشكلة كذلك؛ ففي العديد من الدول العربية والإسلامية مثلاً، هناك قوانين تمنع تجنيس غير المسلم، وقوانين تمنع تجنيس أبناء المواطنة على اعتبار أنهم ينتمون للأب. يجادل البعض بأن الأبناء يفترض بهم أن يحملوا جنسية الأب نظراً لأنهم، من منطلقات دينية كما من منطلقات تقاليدية، يحملون اسمه، وهذه إشكالية أخرى مكانها مقال آخر إن استطعنا في يوم أن نناقشها، ونظراً لأنهم يفترض أن يتبعوه في كل تعريف لهم في الوجود. ولكون تشكيل الدول وقوانينها اليوم موضوعاً مدنياً بحتاً لا علاقة مباشرة له بالتشريع الديني، أو هكذا يفترض أن يكون، ولأن الجنسية قضية مدنية حديثة لا وجود لها في الأديان عموماً ولا في التشريع الإسلامي على وجه الخصوص، فلماذا يتم تحديد الجنسية طبقاً لتبعية دينية أو تقاليدية من الأبناء للآباء؟ المرأة مواطنة، يجب أن تكتمل حقوقها تماماً كما تكتمل واجباتها وكما تتساوى عقوباتها في الدولة مع الرجل، حيث لا تقل هذه العقوبات في شيء نظراً لكونها أنثى. وعليه، يفترض أن يكون من حقها أن تورث جنسيتها، لغتها، وحتى اسمها لأبنائها تحت هذه المنظومة المدنية التي لا تعتمد التفسيرات الشرعية أو التوجهات العاداتية القديمة في ترتيب بيتها المدني الداخلي. لو أن دولنا اعتمدت، ولو جزئياً، المنطق المدني هذا، لربما استطاعت أن تحل جزءاً كبيراً من مشكلة انعدام الجنسية من خلال تجنيس وتأمين وحماية أبناء المواطنات، ولكن ماذا نقول في رجعية وقبلية وشوفينية لا يدفع ثمن لها مثلما تدفع النساء؟
لا يزال عدد من عديمي الجنسية في الكويت مضربين عن الطعام إعلاناً لأزمتهم الإنسانية الحارقة وتسليطاً للضوء على معضلتهم القديمة المتجددة، ومازال العالم بأكمله، رغم كل مؤسساته «الفاخرة» ومنظماته السياسية ذات الطابع الشامل الذي يفترض أنه يظلل الدول المدنية بأكملها، ساكناً تجاه صخب ألم عديمي الجنسية، متجاهلاً ضياعهم النفسي والجسدي، مترفعاً عن المخاطرة العظيمة التي يعيشونها نظراً لغياب التمثيل الشرعي والحماية الرسمية لهم. العالم يحيا على سطح الأرض، وعديمو الجنسية مختنقون في الشقوق التي خلقتها الحروب والعنصريات والأفكار القديمة الغابرة بين الدول، «فمتى (ينجون) من الأسر (وننجو)؟ لست أدري». *
تحريفاً من طلاسم العظيم إيليا أبو ماضي