بينما أنا «أنتقي» أحداث حياتي وأحدد اختياراتي، تحضرني كثيراً كلمات والدي حول قفزة المبدأ وسذاجة المنطق، فأجدني أختار قفزات لا عقلانية في تحدٍّ سافر للمنطق الذي طالما عشقته وجادلت من أجله ونيابة عنه. أفهم الآن أكثر أن لكل زمان منطقاً، وأن لكل منطق زماناً، وأن أجمل الأزمان هي تلك التي بلا منطق. أكثر من يعلم بشقائي مع نفسي هما والداي، يعلمان أن حرباً شعواء تدور في ثنايا الروح، معركة ضارية لا ترحم كبداً ولا تترفق بقلب. كل ما يحدث في الدنيا يعنيني بشكل أو بآخر، أتعذب به وأعذب من حولي مستشعرة ذنباً ومعتقدة يداً لي فيما يحدث، أتذكر أول مواجهة لي مع التقسيم الطائفي، يوم عدت من المدرسة باكية غاضبة مقبلة على والدي بسؤال غير تقليدي: لمَ ذهب الإمام الحسين حفيد الرسول إلى كربلاء وهو يعلم بضعف موقفه العسكري؟ كانت تلك الجملة أول مواجهة بيني وبين والدي بعد «اكتشافي» أن الإسلام ليس واحداً، وأن «أقسامه» تختلف وأحياناً تتضاد. ابتسم والدي وقام إلى مكتبه بوقاره المعهود عائداً بخريطة وقلم، تمططت رقبتي باتجاه الورق بين يديه فأمر بحزم: «اجلسي». كشف رأس قلمه، وفرش خريطته وشرع يحكي حكاية: من هنا انطلق الحسين وإلى هنا وصل، في هذه البقعة نزل، وعند هذه المنطقة استشعر الخطر. سائل أزرق حفر أخاديده في خريطة والدي وفي ذاكرتي الفتية، قصة مهيبة مشوقة: فيها فروسية وشهامة، فيها حب وألم، فيها تضحية واختيار. إلى اليوم، لا تبدو لي قصة حفيد الرسول المحبب إلا قصة غاية في الجمال والحزن والشاعرية، نقطة تحول تاريخية، قصة حب وعقل وضمير. ليست تلك قصة طائفة، ليست تلك مناسبة يميزها البعض دون الآخر، في ضميري، تلك قصة علمية تاريخية شاعرية لا يمكن أن تحكيها إلا بقلم وخريطة، ومع ذلك لم تهدأ نفسي «وهات يا جدال»: لمَ فعل الإمام ذلك؟ أولم يعرف أنه يرمي نفسه في التهلكة؟ كيف وأين ولماذا؟ وظللت أسأل بغضب إلى أن هدهدتني عبرات ذلك اليوم لنوم مضطرب. أتذكر صبر والدي بعجب، يجاوب ويحاور فينساب الحديث هادراً دون أن يقف في طريقه حرام أو ممنوع. ظللت أسأل وظل والدي يشعرني أن تلك الأسئلة من حقي، إلى أن ختم حديثه معاتبا: «تحسبينها بالورقة والقلم، والمبادئ تتطلب أحياناً قفزة غير محسوبة، ليست تلك منطقية ولكنها… سذاجة». بعدها كان لابد أن أتحمل تبعات عنادي: أمر بقراءة كتاب من القطع المتوسط، بتجليد أسود مخيف يحمل عنوان «فلسفة الشيعة»، ثم ثلاثة كتب من القطع الصغير بأغلفة لطيفة ملونة لا تنبئ عن محتواها الصارم بعنوان «العبقريات».
خلال السنوات القليلة الماضية، وبينما أنا «أنتقي» أحداث حياتي وأحدد اختياراتي، تحضرني كثيراً كلمات والدي حول قفزة المبدأ وسذاجة المنطق، فأجدني أختار قفزات لا عقلانية في تحدٍّ سافر للمنطق الذي طالما عشقته وجادلت من أجله ونيابة عنه. أفهم الآن أكثر أن لكل زمان منطقاً، وأن لكل منطق زماناً، وأن أجمل الأزمان هي تلك التي… بلا منطق. أستحضر اليوم قصص والدي عن حادثة كربلاء، واجتماع السقيفة، وحديث الغدير، وحروب الردة، وقصة الخليفة عمر بن الخطاب مع ابنة الرسول الزهراء وغيرها، فلا تبدو لي أنها قصص طائفية، لا تبدو أنها تستدعي التقسيم أو ترجو خلافا، تبدو لي قصصاً تاريخية روحانية عظيمة، فيها يقف النور والظلام جنباً إلى جنب كما في كل قصص الحياة الإنسانية، أقرؤها أفهمها، أتجادل فيها، أحللها وأمحصها، ثم أودعها بكل جلالها وآلامها وعبرها في كتب التاريخ… وأعيش حياتي وأدع غيري يعيش.
بعد أن نشرت مقالي الأخير «اعتذر لي»، علق والداي يخففان من ألمي على صفحة الجريدة الإلكترونية: «ما تطرحينه مبدأ إنساني عالمي يستهدف السلام والعدالة والمساواة، تلك مبادئ وقيم لقيت أرضا طيبة لديك ألا يكفيك أن يكون طريق كفاحك ممهدا بها؟ إن في العالم من لا يراعي ذلك قصدا أو جهلا فلن يعوق ذلك من مسيرتك، وكلمتك تعبر عن هذا المكنون الذي رجوناه فيك فتجلدي لأن الحياة كفاح… ودعاء الوالدين يحفك». كلمات زفت ذكريات، استحضرت غضباتي الطفولية وأسئلتي التي اعتقدت أنني بها أتحدى العالم ومنطقي الذي فردته استعراضاً على شاعرية ويقين والدي. كلمات تذكرني بقلم «بابا» الأزرق وخريطته المطوية على عدة وجوه، تذكرني بصبره ووالدتي، ورعونتي واعتدادي برأيي. اليوم هما يذكرانني بالمبادئ التي طالما لوحت بها، ينبهانني إلى أنها في وقت من الأوقات كانت تكفي لتعبد الطريق، فلمَ، يعاتبانني، جعلت منها أنا اليوم «مطبات» تعيقه؟ أحاول أن أتذكر، وأشرككم معي، قراءً وأصدقاء، علكم تستحضرون من الماضي ما يعينكم ويعينني، فيوحدنا ولا يفرقنا. أشتاق إلى خريطة والدي، وأعلم أنها ستكون اليوم كبيرة ومعقدة وذات ألف طية، لكنني مستعدة وقد هذبت الأيام رعونتي وساءلت ثقتي، واستهزأت، كم استهزأت، بمنطقي، مستعدة أنا والقلم الأزرق عليّ هذه المرة.