حين عدت منذ ما يقرب من السبع عشرة سنة من دراستي في الخارج، أصر والدي على اصطحابنا، أنا وأسرتي الصغيرة، إلى بيروت، أتذكر كلماته واضحة رنانة «أريدكم أن تحبوا هذه المدينة». لم أكن قد زرت بيروت قبل ذلك إلا وأنا طفلة صغيرة دون الثلاث سنوات، حيث انفجرت الحرب الأهلية مع سنتي الثالثة، وما عدنا لزيارة المدينة الساحرة كما يصفها والدي دوماً. ولوالدَيّ ذكريات معجونة بالحب والأشواق في بيروت، والدتي درست فترة هناك إلى أن أجبرتها الحرب الأهلية على تغيير مسار دراستها، كما أنهما قضيا شهر عسلهما هناك، ثلاثة آلاف ليرة لبنانية صنعت لهما شهر عسل بديعاً في هذه المدينة الخارقة الجمال.
لم نحتجْ لوقت طويل لنلحق جميعنا بمشاعر الوالد والوالدة، كان السقوط في حب بيروت لحظياً ومدوياً، حتى أن رحلاتنا لبيروت، منذ تلك السنة، باتت منتظمة ومتتالية ومرتبة مسبقاً. زرنا بيروت في أطيب أوقاتها وأصعبها، كانت والدتي في بيروت أثناء حدث اغتيال رفيق الحريري، وكنت هناك أنا وزوجي بعد الحدث بأسبوع. شيء ما في هذه المدينة يسحرك، حتى وهي تمر بمحناتها المتكررة، تناديك شوارعها وأزقتها، بعراقتها وحداثتها، بلطف أهلها وكرمهم ورقة حديثهم وجمالهم الداخلي والخارجي. أحب إفطار مطعم «لو شيف» في الجميزة، الذي هو -حسب شهادة والدا-، المطعم الأقدم في بيروت، أعشق «كورنيشها»، أتهيب عراقة مدنها، صور وبعلبك تحديداً خلبا لبي، أتشوق لجنوبها بكل معاناته التي تفصله عن الشمال الساحر، أستشعر الأمان من رؤية قباب جامع محمد الأمين الزرقاء الخلابة في وسطها، وأستريح روحاً لزيارة كنيسة السيدة العذراء التي كأنها تحملني فوق بيروت كلها.
هذا الجمال كله يئن اليوم أسفل أكوام من الفساد، أسفل ضمائر ساسة لا يرون في لبنان سوى دولارات يحولونها للخارج، وآخرون، لبنانيون وغير لبنانيين، لا يتصورون ساحاتها وحاراتها وأزقتها سوى حلبات صراع وساحات معارك، وكأنهم يخلقون التناقض الأكبر والأبشع: يحمّلون أجمل أرض شرق أوسطية أبشع الصراعات وأعنف المعارك المدوية. الخلاص من هذا الفساد يحتاج تقصياً حقيقياً، نفضة قوية عميقة ومؤلمة، يحتاج إلى أن يدس الشعب كله يداً واحدة في صدر الفساد، كاسرين ضلوعه، مجتثين قلبه، فاتحين «الجثة» هذه على مصراعيها، كي يفهموا ونفهم، ينظفوا وننظف، ونطوي جميعنا هذه الصفحة التي لا تريد أن تنطوي، وندفن جميعاً هذه الجثة التي تعفنت وحان دفنها منذ زمن، دون صلاة عليها.
كل الخوف اليوم أن تتحول الأنظار كلها، عربياً لا لبنانياً، فاللبنانيون لا تفوتهم الحقيقة التي يعيشونها يومياً والتي عبروا عنها بهذا الشعار البديع «كلن يعني كلن»، أقول إن الخوف كله هو أن تتحول الأنظار العربية في معظمها باتجاه حزب الله، وفقط حزب الله، تحمله كافة المسؤولية، تصبغه بكل ألوان آفات لبنان، ولا تكون الحقيقة الكاملة كلها هنا. في رأيي، الحزب الذي يبنى على مفهوم ديني مؤسساً لنفسه حيزاً مدنياً من منطلق القراءات الدينية، مثبتاً نفسه في الشارع بخطاب ثيولوجي حماسي يحرك مشاعر الناس ومخاوفهم فيقسرهم على «الولاء» بالابتزاز الإيماني أو بالتخويف الديني، في رأيي… هذا الحزب ساقط قبل أن يخطئ، مخطئ قبل أن يعمل، عامل هدم قبل حتى أن يضرب بمعوله الضربة الأولى. الحزب الذي يقدم نفسه دينياً هو حزب إقصائي بالطبيعة، مخيف بالتجربة، عنيف بمنطلق الغاية تبرر الوسيلة، فكيف حين تكون الغايات إلهية حسب ادعائهم الذي يبنون عليه كل قوتهم ووجودهم؟
عموماً، التجربة خير برهان، والتجربة مع دولة حزب الله التي شكلت نفسها داخل الدولة اللبنانية مريعة ومفجعة بكل المقاييس، فبعد تحرير الجنوب اللبناني الذي شكرته كل الدول العربية تمنناً للحزب، تضخمت الأنا وانتفخت النعرة، وتعالى صوت «النصر الإلهي» كما سمّاه الحزب بعد كارثة 2006 على كل صوت حكمة وعقل. إضافة إلى كل ذلك، لم يخدم الحزب سمعته بتمويله الخارجي المعروف المصدر وبتأييده للقيادة الدموية في سوريا. كل هذه الكوارث لا يمكن نكرانها، تماماً كما لا يمكن نكران أن مأساة لبنان لا ترقد على كتفي الحزب وحده. لا ننسى، من يضخم حزباً ما هم أشخاص بداخل البلد نفسه، ومن يصافحه بمقايضات سياسية هم ساسة آخرون من البلد ذاته «مساوون له في المقدار مضادون له في الاتجاه». وعليه، يجب ألا ننجر للحكم على طرف واحد أو «لكب» المسؤولية بأكملها في حضن توجه واحد، لا بد أن تعي الساحة العربية أن المسؤولية متشعبة ومستريحة في أحضان الجميع، بمن فيهم اللاعبون خارج لبنان، الجميع بلا استثناء.
الضغائن الطائفية وما يتبعها من موالاة سياسية لا يجب أن تعمينا جميعاً عن الحقيقة أو تحيد بنا عن المحاسبة الكاملة المستحقة. الجريمة ضخمة جداً، لا تتحمل التراشقات الطائفية ولا الولاءات السياسية المبنية عليها. بيروت انفجرت بما يشبه القنبلة النووية، ماذا نريد أكثر من ذلك حتى نصحو جميعاً من سباتنا العميق؟