تحذير: هذا مقال متحيز عنصري
كل شر في هذا العالم يُبنى على أسطورة، ومعظم أساطير العالم ذكورية، وهي أساطير لا تزال تحكم حيواتنا، بل وما بعد هذه الحياة، وإلى اليوم، إلى زمن القرن الحادي والعشرين. مجتمعاتنا الإنسانية في معظمها مبنية على أسطورة الذكر الألفا، «الأب» الأعظم المقدس، الذي تثبتت صورته في أول إله ذكوري من نوعه، زوس، والذي صنع بأسطوريته الذكورية شكل المجتمعات الإنسانية بالرجل على أنه رأس الأسرة، الأب الصارم شديد العقاب، المحب الحنون، المسؤول عن الجميع، الآمر الناهي، المحيي المميت. على أسطورة زيوس تشكلت المجتمعات الإنسانية بالرجل على رأسها، يمتلك قوامتها سواء في الأسرة، في القبيلة، في المجتمع، في الدولة، في الطائفة وفي الدين. كل تنظيم اجتماعي سياسي قديم أو معاصر يترأسه، أولوياً، ذكر، وذلك بحكم الأسطورة المتوارثة واحتراماً لعنفها وسخفها وسفاهتها.
والحروب ذكورية، والاستعمار ذكوري، والقتل ذكوري، والعنف ذكوري، وكلهم مبنيون على أساطير، ومستمرون على أساطير. مثال على ذلك، هذه الحركة الصهيونية الاستعمارية التي ابتلينا، فوق مصائبنا الشرق أوسطية، بها. هذه الحركة «الاستعماردينية» مبنية على أسطورة الوجود الإسرائيلي القديم على الأرض وامتلاكهم التاريخي لها، وهو وجود حربي «غزوي» الطبيعة، ذلك أن البشر كانوا يمتلكون الأرض منذ قديم الزمان بإغارة بعضهم على بعض وبتقتيل بعضهم بعضاً. واليوم تستمر هذه الحركة في استعمارهم الإبادي-الطبيعة باستخدام الأسطورة القديمة ذاتها، وبتوظيف رموز ذكورية لها، وبصياغة دين مُفَسَّر تفسيراً ذكورياً بحتاً، ليُعملوا في أصحاب الأرض الحقيقيين، وهم مجموعة مختلطة من البشر كان يطلق عليهم Philistines لا تزال بقيتهم تقطن الأرض، القتل والذبح والنحر والتفجير والتجويع والتشريد لاستعادة أرضهم المدّعاة.
المثير للاهتمام في الموضوع أنه حتى لو صدّق الغرب أو كان مصدقاً لسنوات هذا الادعاء الغبي الذي يمكن دحضه في أي مناقشة تحمل أي درجة من العقلانية المدنية، أو حين فتح أي كتاب تاريخ محايد حول الموضوع تجده في أي مكتبة في العالم، أقول حتى لو صدق الغرب ذلك، يبقى أنه كان قابلاً بحل المشكلة على مدى خمس وسبعين سنة بالعنف والقتل والعزل بالأسلاك الشائكة والقنص على الحدود وتفجير المساكن والمدارس والتجويع والتعذيب والتشريد، أي أنه كان قابلاً بحل مشكلة أسطورية غابرة ذكورية، بأسلوب غابر ذكوري، ولا كأننا وصلنا القرن الحادي والعشرين، ولا كأن لدينا آلاف المنظمات الحقوقية التي يترأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومنظمة الأمم المتحدة، التي يبدو أن لا عائد حقيقياً من وجودها سوى مساندة القوي وترتيب المصالح. ما زالت اليد العليا للذكورية، للأب الأكبر الذي يأمر فيطاع. يطيع العالم الحكومات العظمى الحائزة على مكانتها بالدولار والسلاح، وتقود هذه الحكومات ذات الدوافع البدائية لحب البقاء والسيادة، وتحرزها بذات الأساليب الغابرة العنيفة التي تنتهي إلى القضاء على الحياة دون أي اعتبار لأخلاقية أو إنسانية حديثين، أخلاقية وإنسانية يعلقهما العالم على حوائط جدران مدنيته الحديثة المزركشة المبنية على أقبية بدائية مليئة بالدماء، أقبية لا تزال فاعلة كما كانت منذ آلاف السنوات الغابرة. مازال الأقوى يعذب ويشرّد ويسرق ويذبح هذا الأضعف الذي يقدّم قرباناً عند أقدام آباء أسطوريين، نحن صنعناهم، ثم عبدناهم.
غزة تُباد باسم أسطورة، وتُهمل بأوامر من بقايا أسطورية، ويُتآمر عليها من قبل من يدعون مقاومة الأسطورة، وهم أكثر المستعبدين منها. غزة ضحية تفكير بشري شوفيني ذكوري عنصري، ينتقم لماض عنيف بحاضر أعنف منه، تفكير يستخدم فكرة «ما كان عليه آباؤنا» ويتعامل من خلالها، تفكير يرى الذكر بقوته وسلطته وأسلحته وهيمنته وأمواله، ولا يرى الحق ولا العدالة ولا السلام، فتلك كلها صفات «ناعمة» يخجل منها الذكور ولا يتعاملون بها.
غزة لا تزال تباد، الأطفال لا يزالون يدفنون تحت الركام، والمدارس والمستشفيات إن بقي منها شيء، لا تزال تُقصف، والعنف بكل وحشيته وبدائيته ورعونته وهمجيته لا يزال فاعلاً تحت مسمع ومرأى من العالم المتحضر بأممه المتحدة وبمؤسساته الإنسانية والغوثية، أي جنون هذا؟ الشهداء فاقوا الثلاثة والثلاثين ألفاً، المدفونون تحت الركام فاقوا الثلاثة عشر ألفاً، عدد الأطفال القتلى فاق الثلاثة عشر ألفاً في ما يشير له فيليب لازاريني، المفوض العام للأنروا، قائلاً إن «عدد الأطفال الذين وصلت الأخبار بقتلهم يفوق في الأربعة أشهر في غزة، عدد الأطفال القتلى في 4 سنوات من كل حروب العالم». أمام أعيننا، صوتاً وصورة، يُستهدف المدنيون المتجهون للحصول على غوث أو إعانة، تُقصف المواقع المدنية، يُدفن الأطفال، تُشرد الأسر من منازلها بوعد أمان لتقصف بعدها في منتصف الطريق.
لا نزال نحيا الأسطورة العنيفة بكل تفاصيلها، لا يزال زوس عاملاً حربته الكبيرة في أجسادنا، ولا نزال خانعين لكذبة صنعناها وصدقناها. نتنياهو وبايدن وسوناك وأتباعهم من قادة وحكومات العالم الخانعة، كلهم مجرد عينات رخيصة مستحدثة من زوس، لم تستطع كل وسائل المدنية أن تخفي همجيتها، صنعناهم وعبدناهم، فمتى نصحو من الغفلة؟