مفهوم النسيان والتغاضي الذي تتبعه الحكومة بعد كل الضرر والأذى خصوصاً ما لحق منهما بدستورية الدولة وديمقراطيتها الهزيلة أصلاً غير مقبول، خصوصاً في ظل نفاذ المجرمين بجرمهم وتفاديهم لكل عقوبة مستحقة، ومثلما ينطبق هذا الكلام على إدارة البلد التعسة، يفترض أن ينطبق على معارضة البلد المتعوسة كذلك.
جميل ومؤلم هو خطاب د. عبيد الوسمي في مؤتمر اتحاد الطلبة في الولايات المتحدة الأميركية، فعلى عادته، يذكرنا الدكتور الوسمي بالداء العضال، فيثير مخاوفنا الناصعة، ويحفزنا على التغيير، وهو التحفيز الذي بدا واضحاً من تفاعل الطلبة الشباب معه خلال إلقائه لكلمته. تحدث الدكتور عن الفساد السياسي، عن الطريقة التي يدار أو بالأحرى «لا يدار» بها البلد، عن الضحك المهين على الذقون، عن القياديين الفاسدين وتحالفهم مع وعاظ السلاطين. قص الدكتور قصص تنفيع تحرق القلب، قصص تعامل مع القانون والدستور تثير الأحزان والأضغان. أخبرنا عن أهمية ألا ننزه أحداً بما في ذلك القضاء وقضاته، فكلنا بشر، كلنا خطاء.
كل ذلك وأكثر بدا مؤثراً في كلمة الدكتور، ولكن هناك ما بدا متناقضاً كذلك، نحن نعيش في زمن العنصرية القصوى يا دكتور، زمن شق صف الكويتيين ووافديهم، وخصوصاً وأقولها بوضوح من الجالية المصرية، فهل كان هناك داع لذكر المصريين تحديداً في كلمتك بصورة ساخرة بأن «ليس كل ما يقولون صحيح وإلا ما كانت دولتهم سقطت بهذا الشكل؟»، أي فائدة تعود وأنت، وإن لم تقصد، تستثير عنصريات لا تنتظر استثارة أصلاً، وتشير إلى آلام جيران لا تحتاج لإشارة مطلقاً؟
ثم إنك ترفض مبدأ «طاح الحطب» الذي تحاول إيصاله الحكومة على لسان بعض وزرائها، وهو ما أتفق معك فيه تماماً، مفهوم النسيان والتغاضي بعد كل هذا الضرر والأذى خصوصاً ما لحق منهما بدستورية الدولة وديمقراطيتها الهزيلة أصلاً غير مقبول، خصوصاً في ظل نفاذ المجرمين بجرمهم وتفاديهم لكل عقوبة مستحقة، ولكن مثلما ينطبق هذا الكلام على إدارة البلد التعسة، يفترض أن ينطبق على معارضة البلد المتعوسة كذلك. تقول إن «خطاب الدولة غير دستوري وغير قانوني» وهل خطاب المعارضة كذلك؟ لماذا أطحت الحطب عن الرموز الغارقة لقفاها في فساد التطرف الديني وفساد مصادرة الحريات وفساد التصويت غير الدستوري وفساد الواسطات وفساد العلاقات المشبوهة السابقة عندما كانت ذات المعارضة في بلاط الحكومة وتحت حظوتها؟ إن كنت لا تغفر للحكومة وأنا معك، فالأجدر أن تتحاسب رموز المعارضة كذلك عما ارتكبت في السابق وخصوصاً أن خطاب أي منهم لم يتغير، وأسلوب ممارستهم للسياسة لم يتبدل، ولننظر لأغلبيتهم، من منهم صالح أو دستوري أو مدني غير خارج من منظومة فساد؟
أنت تعيب يا دكتور على من يطالب المعارضة بتقديم رؤية مؤكداً أن الرؤية والتنفيذ الإصلاحي هما مسؤولية الحكومة التي تمتلك الإعلام وتسيطر على مقدرات البلد، ونحن نتفق هنا، ولكن المطلوب من المعارضة ليس خطة تنموية أو رؤية إصلاحية شاملة، المطلوب هو أن يكون لديهم «رؤية في الاعتراض» كما أشرت أنت، وهذا هو المفقود تماماً وهو ما نحمل مسؤوليته جميعاً كمعارضين على أي درجة وعلى أي جبهة. تفتقد المعارضة أهدافا حقيقية واضحة قابلة للتنفيذ، والأهم أنها تفتقد «خارطة طريق» يتبين منها أين يذهب المعترضون. فلا يمكن مطالبة الناس بالاستمرار في المقاطعة وحرمان أنفسهم من المشاركة في الحياة الديمقراطية، وإن كانت صورية، دون أن تقول لهم كيف سيتم تفعيل المقاطعة والى أين هي ذاهبة بهم. هذا ليس حراكا ضغائنيا، يفترض أنه حراك منطقي واضح الأهداف والسبل. إذاً من لحظة النزول للشارع، من لحظة إعلان المقاطعة، إلى أين وكيف؟
ولقد أكدت أنت يا دكتور أهمية الاستماع للرأي والرأي الآخر، لكنك أكدت في الوقت ذاته أن «كل من يدافع عن الحكومة مرتزق» لأن الدفاع منصب على الأشخاص لا البرامج، كيف تطالب الشباب بالاستماع للرأي الآخر وأنت حكمت بارتزاقهم مبدئياً؟ كل المؤيدين كذابون ومرتزقة وأدوات حكومية، ثم تؤكد أهمية الإنصات لهم؟ كيف يستتب الأمر؟ وكيف تطلق الأحكام هكذا ويوصم بها عدد كبير من الكويتيين والذين، وإن آمنت أنا شخصياً بعدم إصابتهم في رأيهم، لا يمكن أن يكونوا جميعاً منافقين متمصلحين؟ ليس كل مختلف متمصلحا، بل ليس كل حكومي مرتزقا، الناس لها رؤى مختلفة، والكثير من كبار فلاسفة وقانونيي العالم كانت لهم أحياناً رؤى إصلاحية تبتعد تماماً عن المنطق الثوري الذي تقول أنت به، وأؤيده أنا شخصياً وبشكل تام. ثم إنه إن كان من يدافع عن أشخاص لا برامج هو مرتزق وأداة، فيجب مواجهة حقيقة أن المعارضة تستلهم قواها من الالتفاف حول رموز سيبقون مقدسين مهما كان ماضيهم ومهما أقدموا في حاضرهم، وليس أدل على ذلك من أن بعض هؤلاء الرموز يستمر انتخابهم رغم كل تناقضاتهم الأخلاقية والسياسية بما فيها كسر الأيمان المغلظة بعدم الترشح مجدداً، أليست المعارضة إذاً في لبها مبنية على التفاف حول الرموز؟
وأخيراً دكتور، نعلم أن الخطاب يعبر عن الألم والمعاناة، نتفهم أنك تختار الكلمات التي تفصح عن المصاب الجلل، ولكن هل ينقصنا في خطابنا الحالي عنف لفظي حتى تشجعه بأوصاف مثل «تافه وأحمق وأهبل»؟ وهل نحن بمنأى عن العنف حتى تحفزه ولو مجازاً بضرورة إلقاء وزير من برج الحمرا؟ حرية رأي وتعبير بكل تأكيد، ولكنك بتعابيرك تحفز وحشاً كامناً في النفوس البشرية، تلك التي تحتاج تدريباً طويلاً لتتأهل للحوار المتأدب الفاعل وللعمل التغييري الحقيقي، ولا تحتاج إلا لكلمة من رمز مهم عند الشباب مثلك، ليعيدها مسافات للوراء، إلى خطاب عنيف وعمل انفعالي لا ناتج منه. تلك هي طبيعة النفوس البشرية في كل مكان، تحتاج لجهد جهيد لتتحول لخطاب هادئ وعمل فاعل، ولا تتطلب سوى كلمة اشتعالية لتحرق بها المعبد بمن فيه.
نحن نعيش في مستنقع فساد، ذلك لا ريب فيه، ممثلو الأمة فيه يمثلون على شعبه، إدارة الأمة فيه تسرقه، ورموز معارضة الأمة فيه لا تقل تمثيلاً ولا فسادا، وعليه نحتاج إلى خطاب جديد، وطريق واضح متجدد، وقيادات معارضة شبابية جديدة، والأهم أهداف واضحة وخطة عمل مبدئية جلية تذيب جليد موقف المعارضة، بعيداً عن حجة «كل ما نملك هو أن ننتقد». نحن في هذا المأزق ليس بسبب الحكومة وحدها يا دكتور، ومن المفيد أن نكون واقعيين ومنصفين في تقييمنا حتى نصل إلى مكان ما يدخله شيء من النور.