ماذا لو؟
ماذا لو مر قانون السيد مرزوق الغانم؟
ماذا لو؟! هذا السؤال الذي يلح علينا دوماً كبشر والذي لو كان بالإمكان الإجابة عنه، لتفادت البشرية بمجملها الكثير من الكوارث والسقطات المريعة. إلا أن قدرنا أن يسير بنا خط الزمن في اتجاه واحد، للأمام فقط، محملاً بكل الأخطاء من أصغر هفواتها إلى أكبر فداحاتها، ليدفع آخرون الثمن في مستقبل لا نراه وإن كنا نساهم في تعتيمه.
لكن؛ لنحاول الاستفادة من الدروس، لنحاول التساؤل قبل فوات الأوان أن “ماذا لو؟!”، لنحاول أن نقرأ الفنجان ولو مرة بمنطقية ومواجهة حقيقية مع النفس، لعلنا ننصف ونعدل فننقذ أنفسنا وأجيالنا القادمة من الكثير من الألم والندم، ومن تكرارهم لذات الجملة الموجعة “ماذا لو؟!” ولكن بعد فوات الأوان.
ماذا لو مر قانون السيد مرزوق الغانم لَيَجِدّ سرياناً على عائلة- لنسميها عائلة أبي محمد على سبيل المثال-، وهي عائلة مُتَخَيَّلة لغرض المقال، والتي ستمثل الآلاف من العائلات البدونية التي تحيا في الكويت مع الأخذ بعين الاعتبار التباينات الكثيرة بين العائلات البدونية وما سيتبعها من تباينات في آثار تطبيق القانون عليهم. لكن دعونا نستشف تبعات “ماذا لو؟!” على عائلة ذات ظروف “عادية” نسبياً بين عائلات البدون.
لأبي محمد تجربة غير إيجابية مع الجهاز، فلطالما كان بينه وبينهم توتر بسبب موضوع عدم تجديد البطاقة، بسبب طوابير الانتظار الطويلة، ونتاج المعاملة “غير المرضية” التي كان يتلقاها إبان كل زيارة ثقيلة على القلب. تعطلت دراسة ابنة أبي محمد الجامعية بسبب عدم تجديد البطاقة، أما ابنه الخريج، فلم يستلم شهادة تخرجه أصلاً للسبب نفسه. أبو محمد لديه أبناء صغار كذلك، يدخل كل منهم المدرسة سنة تبادلاً؛ ذلك أنه غير قادر على دفع “رسوم امتياز” المدارس المتهالكة المفروضة عليه، والآن يبدو أن جميعهم سيبقون في البيت بسبب عدم تجديد بطاقته. زوجته ترفض الذهاب للمستوصف لقسوة المعاملة التي تتلقاها حين تظهر بطاقتها البدونية، تلك التي تصدرها لها الدولة ومكتوب عليها “مقيم بصورة غير قانونية”، مما يجعلها بطاقة غريبة تناقضية، ينعكس تناقضها على حياة أم محمد وأسرتها كلها. لطالما ظن أبو محمد، رغم كل ذلك، أنه أوفر حظاً من غيره- فعلى الأقل- وصل اثنان من أبنائه للمرحلة الجامعية لتستقبلهم جامعة خاصة تبرعاً نظراً لتفوقهما. على الأقل يذهب بعض أبنائه للمدرسة. على الأقل ينال هو وزوجته قدر من الطبابة ولو بالكثير من الإحراج والشعور بالمهانة. هو في حال أفضل، يسر لنفسه، وهو قانع ومتطلع لقادم أفضل.
ها هو القانون قد صدر، ولا يملك أبو محمد خيارًا سوى التعامل مع الجهاز الذي ينفر منه أصلاً. يذهب أبو محمد إلى مقر الجهاز بأمل متجدد أن القانون الصادر سيضيف بعداً، يخفف حملاً، يفتح أبواباً لطالما كانت موصدة. فور وصوله يستشعر أبو محمد فرحة المكان بصدور القانون الذي وضعهم الآن على “خارطة طريق” لا يحاد عنها، انتصر الجهاز، “ولعله الآن ينتصر لي ولعائلتي” يسر أبو محمد لنفسه. يتقدم أبو محمد من الموظف طالباً تجديد بطاقته، يرحب به الموظف في نغمة جديدة تتماشى مع الواقع القانوني الجديد، ويؤكد لأبي محمد أن العملية سهلة وسارية لا عقبات أمامها، كل المطلوب هو إبراز ورقة تثبت انتماءه إلى جنسية محددة، حيث يؤكد له الموظف أن لديه سنة من تاريخ العمل بالقانون ليظهر أوراقه الخفية التي تدلل على جنسيته “الاًصلية.” ينظر أبو محمد في وجه الموظف، النغمة جديدة، والابتسامة مصقولة، إلا أن الكلام ذاته، ما الذي تغير؟ يخبر أبو محمد الموظف أنه متأمل خيراً في القانون الجديد، وأنه هنا للمساهمة في تفعيله، “سمعنا أن القانون بيحل مشكلتنا” يؤكد هو. يخبره الموظف بجماليات القانون وأنه سيوفر لأبي محمد وأسرته مزايا عديدة ورائعة بما فيها استخراج وثائقه ومستنداته، كل المطلوب ورقة تدلل على الجنسية الأصلية، “ما عندي”، يقول أبو محمد، “ولا يهمك” يرد الموظف، “الدولة تساعدك، كل المطلوب توقيع صغير على المؤشر الذي لدينا، ونحن نتكفل باستخراج وثائقك الثبوتية من ديرتك الأصلية”. “نفس الحجي” يسر أبو محمد لنفسه، “ما في شي تغير، هذا أنا مطالب بتعديل وضع، نفس القصة.” يلاحظ الموظف تردد أبي محمد فيسارع ويؤكد له أنه الآن تحت حماية القانون، وأن التوقيع سيحميه ويفتح له كل الأبواب.
في لحظة فاصلة، يوقع أبو محمد، ليستلم بعدها بأيام البطاقات اللامعة الجديدة بتاريخ صلاحية ممتد لأكثر من سنة، إنجاز رائع لأبي محمد وعائلته. تسري حياة العائلة الآن بشيءٍ من السلاسة الغائبة عنهم منذ سنوات. يسجل الأبناء في المدارس، تسري بعض الخدمات الطبية، ويستطيع أبو محمد أن يتحصل على عمل متواضع. بعد فترة، تعود دائرة الحياة للانقباض، تتعرقل حياة أبي محمد وأسرته، أو بالأصح تتجمد تماماً، كما حيوات أصحاب الجوازات المزورة، ليكتشف أنه ليس “بدون” الآن ولا هو مواطن للدولة المعنية. ما زالت العائلة محرومة من الهوية الحقيقية، ما زالوا معزولين، غير قادرين على التحرك بجواز سفر طبيعي من الدولة المدعى عليهم مواطنتها، لا يزال هو والأبناء والأحفاد منتمين لهذه الدولة فقط على ورق، تعترف به الكويت وحدها، دون أي دولة أخرى في العالم بما فيها الدولة المعنية بحد ذاتها. يضغط الأبناء والأحفاد على أبي محمد بحاجتهم الطبيعية للانتماء، للحياة بشكل منظم كمواطنين في دولة، بالحصول على جواز سفر دائم وأوراق ثبوتية نهائية. “خلينا نروح الديرة إلي يقولون إنها ديرتنا يا يبا ونبدأ هناك من جديد.” يكره أبو محمد الفكرة لكنه يرضخ لتوسلات الأبناء. يذهب أبو محمد طالباً إرساله وأهله لبلده الذي نسبتهم له الحكومة الكويتية. ترفض سفارة البلد المعني استقبال مواطنين توزعهم الحكومة الكويتية على مشتهاها. “ليس لدينا إثباتات مواطنية لهذه العائلة” يردون بدبلوماسية. “شنو أسوي الحين” يترجى أبو محمد الموظف صاحب الابتسامة المصقولة. تختفي الابتسامة، وتغيب التعابير، وتظهر ملامح غائبة جامدة، كغياب هوية أبي محمد وجمود حياته التي تدور في دائرة مغلقة كأنها لعنة أبدية. يذهب أبو محمد للجنة التظلمات التي أسسها القانون، يخرج الحكم سريعاً بانتمائه للدولة المعنية، تضيق الدائرة وتغلق كل المنافذ على أبي محمد وعائلته الذين تحولوا إلى مقيمين بصورة غير قانونية، غير قابلين للإبعاد، غير قادرين على الانتماء إلى أي مكان، أوراقهم مؤقتة، جوازاتهم مؤقتة، وحياتهم مستمرة ولكن مع وقف التنفيذ. يقرر محمد، الابن الأكبر، أنه تعب، يلح على الحل الأوحد الذي بقي له، الهرب عبر الحدود ومحاولة اللجوء إلى دول باردة لا يعرف عنها شيء، يلتمس فيها دفء أن يكون إنسانا كاملا. يفتك قراره بقلوب أفراد العائلة ويورثها هم القلق والفراق، لتتراكم أحزان فوق أحزان، وتلك قصة أخرى ووجع آخر لمقال آخر..
لكن “ماذا لو؟!” عادت اللحظة ورفض أبو محمد التوقيع على الورقة والإقرار على نفسه بجنسية بلد لا يعرفها ولم يزرها يومًا؟ أبو محمد الآن أمامه سنة يتصرف خلالها، بعدها سيكون تحت طائلة عقوبات القانون. يحاول أبو محمد اللجوء للواسطة، فهي كل ما يعرف ونعرف نحن في بلد اهترأت مؤسساته تحت ضغوط العلاقات الشخصية. “هذه المرة يا بو محمد ما فيها واسطة، لازم توقع” تقول له واسطته المهمة ذات النفوذ الكبير. “مستحيل أوقع وأتعلق مثل إلي شفتهم قبلي، أنا كويتي، وحتى لو ما اعترفت فيني البلد، هل ستعترف فيني وفي عائلتي البلد الأخرى إلى بيقطوني عليها؟” تمسك أبو محمد بموقفه، ورفض التوقيع متصوراً أن حياته ستسمر بكل صعوباتها وتلافاتها السابقة. مع الوقت، بدأت كل “المزايا” بالذوبان حتى تلك التي كانت متوفرة- على قلتها- في السابق، كالحد الأدنى من الرعاية الصحية، الحد الأدنى من فرصة تعليم الأبناء، ورقة سفر هنا، ورقة حج هناك. كل “المزايا” المهترئة أخذت تختفي مع تلاحق شهور السنة المحددة، ليصبح أبو محمد وعائلته بعد مرور السنة مكشوفين تماماً، بلا أي حقوق إنسانية، وتحت طائلة قانون الإقامة. بعد نفاد مدتهم بشهر، تم القبض على أبي محمد وإيداعه في سجن الإبعاد. ثارت العائلة وبقيت تطرق كل الأبواب مسببة إزعاج كبير لأصحاب هذا القانون الذين لم يفكروا في تبعاته، ما الحل؟ تم القبض على بقية العائلة بأكملها وصولاً للصغيرة فاطمة ذات الثلاث سنوات وإيداعم كلهم مع والدهم في سجن الإبعاد. ولأن هذا السجن يفترض أنه مؤقت، كان لا بد من التصرف في عائلة أبي محمد بعد انقضاء مدتهم فيه. لم يكن من الممكن إرسالهم لأي دولة أخرى ذلك أن المواطنة تحددها الدول المعنية وليست حكومة الكويت. لم يبق أمام الحكومة حلًا سوى إخراج عائلة أبي محمد من السجن ليتدبروا أمورهم في الشارع. خرج أبو محمد والعائلة لتستقبلهم بيوت عائلاتهم الممتدة المُتْعَبَة أصلاً. تنقلوا من بيت إلى بيت إبان محاولة أبي محمد ومحمد الحصول على أي وظيفة تحمي العائلة من الانهيار التام. عادت الأسطح الصفيح لتظللهم، اختنقت الأنفاس وماتت كل الأحلام. محمد يقرر أنه تعب، يبقى أمامه حل واحد، الهرب عبر الحدود ومحاولة اللجوء إلى دول باردة لا يعرف عنها شيء، يلتمس فيها دفئ أن يكون إنسان كامل. يفتك قراره بقلوب أفراد العائلة ويورثها هم القلق والفراق، لتتراكم أحزان فوق أحزان، وتلك قصة أخرى ووجع آخر لمقال آخر..
ملعون المصير لو وقعت يا أبا محمد وملعون المصير لو لم توقع. مهاجر غريب لو وقعت أنت يا محمد ومهاجر غريب أنت لو لم توقع. لن يتغير شيء، لن يقل عدد البدون، لن يُبعد أحد بلا هوية حقيقية، لن تتحسن حياة الناس، لن تقل نسب الفقر أو تزداد فرص العمل أو يستتب التعليم كحق أصيل. سيبقى الحال على ما هو عليه، إلى أن تعجز الأرواح عن التحمل وتتداعى الأجساد بخرابات الأرواح، وتذهب المشكلة إلى أبعادٍ مجرد محاولة التنبؤ بها مرعبة.
لكن “ماذا لو” أن ما مر هو قانون جمعية المحامين؟
“ماذا لو” كان الذي أُقرّ هو قانون جميعة المحامين؟ لو كانت عائلة أبي محمد مطابقة لشروط الفئة الأولى من القانون (مثبت تواجدهم من 1965 وما قبلها، لهم صلة قرابة بكويتيين، لهم شهداء في العائلة، لهم أم كويتية، إلى غيرها من الشروط المتفق عليها أصلاً) سيتم تجنيس أسرة أبي محمد مباشرة لتنتهي مأساتهم وإشكاليتهم مع الدولة والحكومة. لو كانت عائلة أبي محمد مطابقة لشروط الفئة الثانية من القانون (لديهم إثبات تواجد في الدولة بعد 1965 وإلى 1990، ينتمي بعضهم لفئة العسكريين، إلى غيرها من الشروط) يتم منح العائلة إقامة لمدة عشر سنوات على أن ينظر في تجنسيهم بعد مرور هذه الفترة وبعد استكمالهم لشروط التجنيس، وهو أسلوب تتبعه العديد من الدول في حل مشكلة انعدام الجنسية بخلق “طريق للتجنيس” تضع من خلاله بعض الشروط التي تفيد الأفراد والدولة، ليتحقق التجنيس في نهايته. أما إذا انتمت العائلة للفئة الثالثة وهي الفئة التي لا تنطبق عليها شروط الفئتين الأولى والثانية، فيمنحون إقامة دائمة وبحقوق أساسية مكتملة إلى أن ينظر في ملفاتهم فرادى. كيف سيتم ذلك؟ ينص قانون المحامين على دور رئيسي للقضاء في البت في سلامة الأوراق ودرجة الاستحقاق (المادة 5 من القانون)، مما سيجعل الأمر موكلاً للقضاء للبت في الحالات غير المحددة، ضماناً لسلامة الإجراءات وحفظاً لكرامات الناس.
سيعيش أبو محمد حياة كريمة تحت مظلة قانون المحامين، ستصرف له بطاقة تعريفية يستطيع من خلالها أن يتعالج ويستكمل دراسة أبنائه. سيتمكن من الحصول على عمل، يرفعه هو وأسرته كحالة معوزة عن كاهل الدولة والمؤسسات الخيرية، وسينظم القانون مستحقاته بحيث لا يسرقه صاحب عمل ولا تهضم حقوقه شركة توظفه وغيره من البدون بشكل جماعي ثم تلفظهم دون حقوق أو دفع مستحقات. سيتخرج أبناؤه من الجامعات، وسيخدمون الكويت في قطاعات مختلفة ليردوا لها شيئا من جميلها الإنساني المتوقع. سيشعرون بالانتماء أكثر، بالراحة والمحبة والاحتواء، ويكبرون ليصبحوا أشخاصا أفضل، يخدمون بشكل أكثر إخلاصاً وفاعلية. لن تذهب مواهب محمد سدى، وستكبر الصغيرة فاطمة لتصبح مدرسة فيزياء مهمة، وسترتفع درجة السعادة بين أفراد العائلة، وحين ترتفع درجة السعادة، تتحسن الحياة للأسرة والدولة والمجتمع ككل.
لن يفكر محمد في الهروب عبر الحدود واللجوء لدول لا يعرف عن ثقافتها شيئا. سيسافر لاحقاً في إجازة هناك قاصاً على أهل البلد الذي سيزوره عن حبه لبلد لربما بعد لا يملك ورقة انتماء لها لكنه يستشعر كل الأمن فيها، سيتكلم بفخر واعتزاز، دون كسرة نفس، دون شعور بأي نقص، وسيضمه في نهاية عمره تراب بلده الذي ولد وعاش فيه، لا ثلوج غربة حارقة، تقسو عليه حياً أو ميتاً. كل شيء سيصبح أفضل، للإنسان، للدولة، لسمعتنا الخارجية، ولنا ككويتيين، لنفوسنا وضمائرنا وأخلاقية معيشتنا. سنعود للتعايش الطبيعي بسلام، دون اغتراب عبر حدود مناطق بعضها فاخر وبعضها متنكر في بيوت من صفيح، كأنها مناطق في دول فقيرة لا نتذكر قراءة أسمائها على الخريطة، كلها على بقعة صغيرة لا يفرق بين أبعدها إلى أبعدها أكثر من نصف ساعة. سنصبح طبيعيين، غير محملين لا بعنصريات ولا كراهيات ولا وخزات ضمير. ومن لا يريد ذلك لنفسه وبلده؟
“ماذا لو؟!” لنحسبها سريعاً قبل فوات الأوان.