نشرت قبل ثلاثة أيام تقريباً من كتابة هذا المقال على «تويتر» موضوعاً نشر على «بي بي سي» العربية بعنوان «هل كان داروين على خطأ: ثماني حقائق صادمة عن تطــور الإنسان» وتجدونه هنا:
https://www.bbc.com/arabic/science-and-tech-50042500
وقد أتت ردود الفعل تجاه نشره على غير توقعي (دائماً لسبب ما تأتي ردود الفعل على غير توقعي) عنيفة بشكل قديم، عدائية على نحو تجاوزه الزمن، مكررة الجمل والتعابير بشكل فكاهي كوميدي النكهة.
دع عنك الردود ذاتها التي لا تريد أن تتغير: والله إذا أنت أصلك قرد نحن لسنا كذلك، الآن الآن أحضري قرداً وحوليه إلى إنسان، داروين غبي، الملاحدة يتقصدون ضرب الدين بالكلام عن النظرية.. وتعليقات أخرى لا تحتمل السرد هنا، الا أنها جميعاً متكررة نمطية لم تتغير، ولربما هذا سبب عدم توقعي لنوعية الردود. فبعد مرور فترة من الزمان، يكون المتوقع أن الناس تغيرت ونوعية ردودها تغيرت كذلك، ليس اتفاقاً بالضرورة بكل تأكيد، لكن تطويراً للحجج المخالفة وتهذيباً للتعابير وإظهاراً لمقدار أكبر من احترام الرأي الآخر. لكن شيئاً لا يتغير، بما في ذلك استغرابي أنا. طبعاً، كانت هناك ردود مضادة لموضوع المقال ممتازة، وكانت هناك بعض التساؤلات المستحقة تماماً، التي لا يزال العلماء «الحقيقيون» يتعاملون معها تفسيراً وفهماً وليس دفعاً في اتجاه إثبات أو دحض هذه النظرية أو تلك.
لندع جانباً هذه الردود، فتلك تتكرر بما يعكس توقف الزمن في عقولنا، لا نحن نذهب للأمام ولا نعود إلى الخلف، في أماكننا وعند ذات جملنا نتجمد. الظريف أن البعض صدّر نوعية ردود أخرى مختلفة بدت كأنها نكاية شخصية بي، وكأن داروين هذا ابن عمي، أو أن نظريته أو كتبه مقدسة بالنسبة إليّ. ما يغفله هؤلاء أنه أولاً لا توجد صلة قرابة -على حد علمي- بيني وبين داروين (كنت أتشرف والله)، وأنني أصلاً لست من أصحاب «الفزعة العائلية» لأتصدر لابن عمي إنكليزي الأصل هذا. وثانياً، لا يوجد شخص أو كتب أو آراء أو نظريات علمية مقدسة بالنسبة إليّ أو إلى أي إنسان يفهم فلسفة العلم وطريقة عمله. الموضوع ليس له بعد شخصي، نظرية التطور والانتخاب الطبيعي لتشارلز داروين هي واحدة مما قدمه العلم من نظريات حول تشكل ثم تطور الإنسان (لا نشأته؛ فنشأة الكائنات علم آخر لم يتطرق إليه داروين في نظريته فعلياً)، وهي نظرية -على حد علمي وفهمي وقراءاتي- رصينة إلى حد كبير ومثبتة بأدلة كثيرة جداً متوفرة في متاحف العلوم الطبيعية حول العالم. تجدر الإشارة هنا إلى أن كلمة نظرية لا تعني مفهوماً غير مثبت، العلم كله نظريات، وهناك مفاهيم مثبتة أكثر ومفاهيم مثبتة أقل، تبقى في النهاية كلها تحمل مصطلح نظرية. المهم أن هذه النظرية ستبقى الأقوى عندي إلى أن يظهر ما يدحضها أو يطورها أو يغير جوانب فيها، وهو ما بدأ بالفعل؛ فكثير مما قاله داروين تم تطويره أو الدفع به في طريق مختلف أو فهمه علمياً واجتماعياً وفلسفياً بطرق تباينت وفهم داروين. وهذه هي عظمة وروعة العلم، ليس فيه مقدس، لا ثابت فيه سوى التغيير، كل نظرياته تتغير، كل مفاهيمه تتطور، لا شيء يقف في مكانه في العلم الحقيقي، لا شيء يتقدس أو يثبت. وفي الواقع، ما إن تظهر نظرية علمية حتى يسعى العلماء بكل ما لديهم من مقدرة على دحضها وإيجاد جوانب ضعفها، لا على على تأكيدها وإيجاد جوانب قوتها، التأكيد والتعثر بجوانب القوة عادة ما تكون آثاراً جانبية لا أهدافاً علمية. داروين في حد ذاته سعى لهدم نظريته بقية عمره، وتوفي كسير القلب ـ حسب ما تقول بعض الروايات ـ لعدم قدرته على نفيها وإراحة نفسه منها.
والآن، مع موجة الهجوم المقبلة، نقول مقدماً: من يريد أدلة ليتكرم بزيارة موقع متحف الفن الطبيعي السمسثوني
https://naturalhistory.si.edu/visit/virtual-tour
الذين لديهم جولات مرئية ممتازة على موقعهم تستعرض الكثير من الأدلة الملموسة، وتتوافر على موقعهم أيضاً معلومات مكتوبة قيمة جداً. ومن يود التعرف على مزيد من الأدلة، فالأجساد البشرية والحيوانية بحد ذاتها تحمل الكثير من الأدلة المحسوسة على التطور، يجد تفصيلات كثيرة لها في الكتب وعلى المواقع الإلكترونية، أحد أمثلتها المبسطة تجدونها هنا
https://guff.com/11-things-on-your-body-that-are-proof-of-evolution.
من يتحسس من مسألة أن أصل الإنسان قرد، نطمئنه ونحلف له ألف يمين أن داروين لم يقل ذلك، داروين يقول بأن الإنسان يشترك مع بقية الكائنات الحية في جد مشترك، حيث افترق عن الشمبانزي نزولاً من هذا الجد المشترك ليصبح كائناً منفصلاً، وإن كان قريباً منه جداً في التركيب الجيني، وللمزيد عن ذلك على موقع المتحف ذاته أعلاه. من يصر على أن اقتناعه لن يتحقق إلا إذا أتينا له بقرد وحولناه إلى إنسان في التو واللحظة، فنقول له: مع تقديرنا لاستحالة إقناعكم بأن القرد المسكين لا علاقة له بالموضوع، ومع فهمنا لصعوب استيعاب الإنسان للفترة الزمنية المليونية التي تتطلبها عملية التطور، ومع إدراكنا لأن البطء الشديد جداً لهذه العملية يجعل من الصعوبة بمكان تخيل العقل البشري لها… نقول لمثل هذا الشخص -مع كامل الاحترام والتقدير- أن اصرف النظر، و»بلاها هذه النظرية»، ولندع القرد المسكين في مكانه آمناً.
الآن، المصادر المذكورة أعلاه هي كذلك مجرد مصادر ولا قداسة لها في الغالب، وفي السنوات المقبلة سيثبت بعض صحتها ولربما كثير من خطئها، وهذه عظمة العلم وجماله.. متغير متطور شكاك مرتاب قاس فظ صريح غير مجامل، يقول ما يعرف وحين يخطئ، وهو يحب أن يخطئ، يعترف مباشرة ويصحح نفسه، كرامته في اعترافه بقصوره، وهيبته في رغبته وأصحابه بإثبات أنفسهم على خطأ. الأمثلة المصادرية التي أوردتُها في المقال مجرد أمثلة، وإني أول من يطالب بعدم أخذها محمل الكلام القاطع المقدس، وكذلك بعدم التعامل معها على أنها كلام ملاحدة يعادون الإسلام، هؤلاء العلماء آخر همهم أن يعادوا هذا الدين أو ذاك، والإسلام وبقية الأديان ليست ولا يجب أن تكون أبداً على علاقة عدائية بنظريات العلم. هذا علم وذاك دين، هذا موضوع وذاك موضوع.
إلى الآن، نظرية التطور هي الأكثر إقناعاً وإثباتاً، حتى فيروس كورونا الحالي قد يكون دليلاً واضحاً عليها، وإذا تغير ذلك فسيتغير رأيي كذلك، لا داروين يهمني شخصياً ولا قداسة عندي لنظريته، سأرمي النظرية وصاحبها وراء ظهري متى ثبت عكسهما، يعني ببساطة «ماليش أمان».