شاهدت قبل أيام فيلماً مؤثراً بعنوان The Discovery (الإكتشاف) الذي هو فيلم بريطاني أمريكي إنتاج سنة 2017. يحكي الفيلم قصة عالِم استطاع أن يصل بأبحاثه لإثبات أن هناك استمرارية بعد الموت، وذلك حين استطاع تسجيل نبضات الوعي العصبية للإنسان الذي يموت وهي تنتقل إلى مكان آخر، إلا أنه لم يستطع، إلا في نهاية الفيلم، أن يكتشف إلى أي مكان سيذهب هذا الوعي وكيف سيتجلى بعد أن يموت جسد الإنسان الذي هو أداته في التعبير عن هذا الوعي في هذه الحياة الدنيوية.
في وقائع الفيلم، ترتفع نسبة الانتحار لأقصاها ما أن يعلن العالم عن اكتشافه هذا، حيث سارع العديد من الناس، فور تأكدهم بالأدلة العلمية القاطعة من وجود صورة ما من حياة أخرى بعد الموت، إلى التخلي عن حياتهم الدنيوية المليئة بالآلام هروباً إلى صورة أخرى من الحياة قد تكون أفضل وأرحم، وإن لم يكونوا بعد يعرفون ماهيتها.
استوقفتني كثيراً هذه القراءة الفلسفية في الفيلم، هل فعلاً القناعة بوجود حياة ما بعد الموت ترفع نسب التخلي عن الحياة الحالية بين البشر؟ لربما هي قراءة تفسر عملية التضحية بالنفس، أو الاستشهاد، من أجل المبادئ الدينية، خصوصاً في العقائد التي تؤكد وجود حياة ما بعد دنيوية، التي تجزل وعود العطاء للأشخاص الذين يموتون وهم عليها. الشباب الصغير الثائر الذي تشتد عليه الدنيا في شرقنا الأوسط المنكوب، الذي يعيش محروماً من متع الحياة ومن أمنها ومن سلامها، لا بد أن يختار طريق الموت إذا كان ما خلف حاجزه متع هو غير قادر على اختبارها في هذه الدنيا. ليست هذه الطريقة «الترويضية» جديدة أو محصورة على دين معين، إنما هو أسلوب قديم كان «الكبار» يستخدمونه مع «الصغار» في معظم العقائد للدفع بهم للتضحية بأرواحهم تحقيقاً لمكاسب أيديولوجية وسياسية لهم. وفي حين أن هذا الأسلوب الترويضي ليس بجديد، إلا أنه لطالما انطوى على إغراء بمتع لاحقة وليس فقط على مجرد تشجيع اليقين بوجود حياة ما بعد الموت. ترى، هل هذا اليقين بوجود حياة أخروية، أي حياة، فعلياً كاف للدفع بالناس للذهاب إلى الموت؟ وإن كان كذلك، فلمَ لا ترتفع نسب الانتحار بشكل عارم عند أصحاب الديانات التي تقول بحياة أخروية أبدية، والتي لربما كان أقدمها وأشهرها، الديانة المصرية القديمة؟
لم أكن مقتنعة جداً بالتحليل والتنبؤ الوقائعي في الفيلم، لم تكن فكرة أن مجرد إثبات وجود حياة بعد الموت هي كافية للدفع بالناس للتخلي عن حيواتهم الحالية، فهذه القناعة موجودة أصلاً وعند -ربما- أغلبية جيدة من البشر. إلا أنه في ختام الفيلم، تبدت فكرة رائعة ومرعبة في آن جعلتني أتأمل في خياراتي بشكل أخافني. في آخر الفيلم يكتشف العالِم وابنه الذي يساعده في أبحاثه، أخيراً، مسار الوعي الإنساني الذي يستمر بعد الموت. يكتشف العالمان أن هذا الوعي ينتقل إلى حياة بديلة، هي نسخة من الحياة التي تركها الإنسان خلفه والتي تعود به بعد موته إلى نقاط فاصلة في حياته، تعطيه فرصة عمل قرارات أفضل، تصحيحاً لمسار الحياة، وتفادياً لاعوجاجاتها وآلامها. ما أن يتحقق ويتوثق العالمان من هذا الكشف، حتى يقررا تحطيم الآلة التي تسجل الوعي صوتاً وصورة، ومعها كل دليل على اكتشافهم هذا، حيث يقرران ألا يعلنا أبداً عن هذا الكشف الذي سيرفع نسب الانتحار، حسب تنبؤهما، هذه المرة إلى درجات تفوق الخيال. إذا ما تم الإعلان عن هذا الكشف، يعتقد العالمان، سيتنازع الناس إلى الموت رغبة في بداية جديدة، في إعادة تجربة الحياة بطريقة مبنية على قرارات أفضل، ومن ثم بفرصة أكبر لإصلاح الأخطاء. هذه الفكرة، حين تأملتها، كانت مرعبة بحق.
ماذا لو كانت تلك هي فعلياً مساحة ما بعد الموت؟ ماذا لو كان وعينا يغادر فعلاً إلى حياة بديلة، نسخة من حيواتنا الحالية التي تقدم خيارات مختلفة يمكننا أن نأتيها فنحسن حيواتنا ونتفادى أخطاءنا وما يترتب عليها من آلام وأحزان، هي لبعضنا أكبر وأعمق من أن نحملها فوق ظهورنا البقية الباقية من زمن حياتنا هذه؟ ماذا لو عند لحظة الألم الغامر الفظيع توفرت لنا هذه الفرصة، هذه المعلومة، لو أننا كنا نعلم أننا نستطيع ببساطة أن نموت لنحيا في عالم بديل، فنغير لحظة الألم إلى لحظة سعادة، ونستبدل قرار الشقاء بقرار الهناء؟ هل كنا لنفعلها؟ هل سنستطيع أن نتخلى عن هذه الحياة التي أتلفناها لنذهب نصلحها في بُعد آخر؟
أخافتني الفكرة كثيراً لشعوري بميل عارم لها. لو أنني استطعت أن أقفز من حياة لأخرى ما أن يشتد الألم أو يقطع المحظور، سأبقى عندها قافزة بين الحيوات إلى أن أصل إلى تلك الحياة التامة الكاملة، مكتملة السعادة، مستوفية شروط الصحة، حياة لا ألم فيها ولا ندم، حياة بقيت أتنقل من أجلها بين عوالم كثيرة بديلة، أعاني كل مرة من لحظة الموت وألم مفارقة الجسد من أجل إصلاح الخلل وإحلال الفرح محل الألم، حياة تامة كاملة شكلتها أنا برسم موتي وآلامي وأحزاني، حياة لم تستقر معالمها سوى بعد تجارب كثيرة وآلام مريرة وثمن مرتفع. لكنها الحياة الكاملة، وهي من صنعي، نتاج تجاربي وتعلمي من أخطائي. كم هي رائعة ومرعبة الفكرة. ستمتلئ كل العوالم البديلة بالموت، والبشر يتنقلون بينها بحثاً عن حيواتهم الكاملة. سيكون هناك موت كثير للوصول إلى حياة أبدية رائعة، ألا تبدو الفكرة بوذية المنحى والروح؟
خفت كثيراً من استحساني، أرعبني توقي وتجاوبي مع الفرصة. هي رحمة الأقدار أننا لا نعرف ما يوجد خلف جدار الموت، وحين نعرف، وسيأتي اليوم الذي ستعرف فيه البشرية بأداة علومها كل الخفي الغامض خلف توقف الجسد وانتهاء الوعي، لن أكون أنا هنا. سأكون بوعيي أو عدمه بعيداً، ولن تقلقني هذه الفكرة بحد ذاتها. وإلى أن يحدث ذلك، سأبقى أفكر في الفرصة التي عرضها هذا الفيلم كل يوم، ماذا لو؟