لي فترة أشعر بغربة متزايدة عن محيطي وتوتر كبير في علاقاتي العائلية والصداقاتية، ليتسع محيط المشكلة مع شعوري بواجب رد وصد ما يوردني مشاعر الغربة هذه، مما يظهرني بمظهر المزايِدة أخلاقياً والمتمظهرة بمظهر مثالي غير وارد بالنسبة لي، أو لأي بشر في كل الأحوال.
ينتشر اليوم خطاب محشو بالكثير من التمييز والعنصرية القاسيين، واللذين كثيراً ما يكونان غير متعمدين، تجاه “الأجانب” في المحيط العربي عموماً والخليجي في تحديد التحديد. لا يمكن إنكار الحس العنصري، شبه الكاره، المبطن في الحوار اليومي الخليجي والكويتي تحديداً والذي أعايشه شخصياً كمواطنة في هذا المجتمع، تجاه بعض الجاليات المقيمة في المنطقة وخصوصاً تجاه الجالية المصرية في الوقت الحالي.
لقد اتخذت صيغة هذا الحوار النافر شكلا طبيعيا مع التكرار والتطبيع اللغوي وذلك إلى أن وصل هذا الأسلوب للخطابات السياسية العامة، أو لربما وروده في الخطابات السياسية هو ما سهل دخوله للحوار اليومي، والتي، أي الخطابات السياسية، يفترض أن تكون أرفع وأكثر حرصاً ودقة ودبلوماسية، حيث أصبح يتم تداول هذا الأسلوب على المستويين الشعبي والسياسي دون التبصر العميق بمعناه وآثاره.
وهكذا امتلأ الحوار اليومي الخليجي عموماً والكويتي تحديداً بالكثير من “العنصريات الاتفاقية” أو “عنصريات كل يوم”، تلك التي يتداولها الناس دون استشعار خطرها ودون الانتباه لواقع تبنيها أصلاً.
يوترني هذا الخطاب شخصياً وإلى حد كبير، ذلك أنني أستشعر، إلى جانب الخطيئة الأخلاقية والحقوقية لمفردات هذا الخطاب، الخطر الكبير الذي يشكله مثل هذا الخطاب على مجتمعاتنا الصغيرة، والكويت مثالاً.
إلى جانب ذلك، أستشعر وبقوة الواجب الذي يفرضه علي نشاطي الحقوقي بمقاومة مثل هذا الخطاب وصده. تحفزني هذه المشاعر لإبداء رد فعل لست أبداً موفقة فيه مهما غيرته وعدلت في طبيعته وانفعالاته. كنت بداية أقاوم هذا الخطاب رداً وجدالاً واستدعاءً للحجج التي أعتقدها منطقية، سياسية وإنسانية، فتجدني تارة أجادل أن التنميط هو سقطة فادحة في التفكير المنطقي مع الاعتراف بوجود مسحة سلوكية عامة عند الشعوب المختلفة، وتارة أجادل بأن الظروف السياسية وما يتبعها من آثار اقتصادية واجتماعية تساهم في تشكيل واقع ينعكس على سلوك الناس بشكل عام، مثال ذلك الحالة المصرية المتهمة دوماً بالاهتمام المادي الذي يسبق ما عداه، والذي هو توجه يستحيل تعميمه ولكن تبقى مسحته الظاهرة هي نتاج معاناة حقيقية وظروف سياسية واقتصادية قاهرة عاشها المجتمع المصري، وأخرى أصر بأن كل مذهب إنساني أو حقوقي رصين يرفض تماماً هذا الخطاب الذي ينمط ويعزل الناس بناءً على جنسياتهم أو امتداداتهم الجغرافية أو العرقية، ويعتبره خطيئة أخلاقية كبرى.
أسوق كذلك أنا في خضم مقاومتي الحجج الدينية بحرمة الحكم العام الكاره على الناس، وأن السخرية أو النقمة أو الاتهام الذي يكيله الخطاب اليومي للجاليات هو خطاب لا مواءمة له مطلقاً مع الورع والمحافظة الدينيين والأخلاق العقائدية التي يفاخر بهم أهل المنطقة دائماً.
بدت دفاعياتي هذه ليست فقط غير مؤثرة ولكنها كذلك مدعاة للحكم علي بالمزايدة الأخلاقية والتظاهر بالمثالية وطبعاً بضعف الوطنية و”الخيانة” للمشاعر الشعبية.
هذه التهمة الأخيرة ليست ذات تأثير كبير علي مشاعري ذلك أنني أدعي يقيناً عدم صحتها مع اطمئناني التام لصدق رأيي وأمانته، إلا أن التهمتين الأوليتين هما ما تؤرقاني نظراً لمسحتهما الحقيقية، ذلك أن كل نصح، مهما تطهرت نية صاحبته، يبقى مزايد أخلاقياً بمقدار، يبقى مدعياً مثالية المتحدثة التي ولابد أنها تخطئ وتزل وتميز في مناطق فكرية أخرى انسياقاً للطبيعة البشرية. كان لابد من أسلوب مقاومة آخر.
لفترة التزمت الصمت التام، متصورة أن سكوتي سيميت الحوار الذي توقعته، كِبراً، أنه يستمر نكاية بي ولإغاظتي شخصياً. لم يكن لسكوتي أي تأثير في استمرار الحوار الذي أخذ يتمدد ويرتاح بتفاعل المتحدثات (والمتحدثين المشمولين هنا في جمع المؤنث السالم كما هو كل جمع لغوي مذكر في هذا المقال) مع بعضهن البعض ودون وجود رد صاد للحديث، حيث أن حتى المتعاطفات المستنكرات للحوار الكاره، كن يعبرن عن استنكارهن “بلطف” وعلى استحياء.
بقي لي خيار أخير مؤلم متمثل في مقاطعة الجلسات العائلية والصداقاتية، وحاولت فعلاً التخفيف من الانضمام للتجمعات والخروج من “جروبات” الواتس آب لتفادي سماع ما تعف أذني عن سماعه ولتجنب التعامل مع موضوع بدأ يأخذ بعد شخصي جداً بالنسبة لي. لم تكن هذه الفكرة ناجحة، بديهياً، ذلك أن هذا الانعزال كان مؤذيا لي شخصياً، هذا من جانب، كما وأنه عزز فكرة الترفع والتبجح المثاليين المتهمة أنا بهما، من جانب آخر.
حقيقة أنا في ضياع تام في تحديد موقف وسلوك في هذا الموضوع، ملعونة أنا لو تكلمت وملعونة أنا لو سكت، مخطئة أنا حتى في نظر نفسي لو رددت وتصديت وذلك لإيماني بأن أي خطاب مهما حاولت ترقيقه سيدو متعالياً وعظياً، ومخطئة أنا لو سكت كون السكوت دوماً ما يحمل ملمحاً تخاذلياً وهو متعارض مباشرة وبوضوح مع نشاطي الحقوقي. لم أعد أعرف ما هو رد الفعل الصحي تجاه هذا الخطاب الآخذ في التعالي والقسوة والاستفزاز، غير قادرة أنا على تحديد رد فعل متوازن، متزن، مرن، قابل للتعاطي بين المتحدثات، وله شيء من القبول في الآذان.
لي من الصديقات والقريبات من أحب وأشتاق وأتصل بهن على أكثر درجة، منها درجة جنسنا الواحد، درجة القرابة، درجة الصداقة، ودرجة المحبة الصافية الروحانية غير المبررة التي يخلقها تلاقي القلوب، إلا أن هذا الخطاب الذي تطبع في الوجدان واستراح في اللغة اليومية واتخذ بعدا فكاهيا تنفيسيا مقبولا عند الأغلبية الغالبة يقف بيني وبينهن. بين استراحتي في لقاء الأحبة واستراحتهم في خطابهم، ماذا أفعل؟