لا أدري كيف يمكن أن يكون لهذه المعركة رابح وخاسر، لا أدري كيف يصنف الناس بهذه السذاجة، كيف تكون منتصرا ونسبة جيدة من أهل بلدك مستاءة ومعزولة؟ أتحدث هنا عن الطرفين، المشاركين والمقاطعين، كل يدعي الانتصار، وليس في هذا الحراك انتصار إنما دروس وعبر للقادم من الأيام. لا تخدم الأرقام أياً من الطرفين إنما تشير إلى حجم الانقسام، بينما يساهم أسلوب الطرفين في تصوير حدة الانقسام ورداءته، فبعد أن كنا شيعة وسنة وحضراً وبدواً وداخليين وخارجيين، أضفنا اليوم مشاركين ومقاطعين، فذلك كل ما “خدمنا” به المرسوم، قسمنا إلى فئات جديدة لتعطي أبعاداً أكثر مرضية للفئات القديمة. فلا مجلس الأمة أتى بشكل مختلف ولا الناس تغيرت طبيعة تصويتهم القبلية والطائفية ولا استطاعت المقاطعة، بسبب من المخاوف المستحقة من المعارضة، توحيد صفوفها، حيث تحمل الصف الليبرالي الانقسام الأكبر في هذا الحراك، فأي انتصار يحاول الطرفان الادعاء، ونحن منقسمون متنابذون، نحمل في القلوب ما نحمل بعد شهور من العنف تجاه بعضنا بعضا؟
لا تظهر نسب التصويت لهذا المجلس انتصاراً قوياً واضحاً لطرف على آخر، وإلا لما استطاع كل طرف تطويع الأرقام والتنظير بها لمصلحته. إن أهم وأول أساليب الإصلاح هو النزول من فوق ظهر الحصان ومواجهة الواقع لوهلة، فلا عيب في محاسبة النفس ولا بأس من التواضع في تقدير المكتسبات لتأتي على درجة من الواقعية. تلك مرحلة ومرت، فلنجلس صمتاً ونفكر، مرة لله نغلق أفواهنا ونفكر، عوضاً عن الضرب والتجريح ورفع أعلام انتصارات وهمية ليست بأكثر من أنصال نطعن بها بعضنا بعضا.
وماذا بعد؟ هو السؤال المستحق. أعتقد أننا يجب أن نواصل حراكا سلميا شعبيا لا يرضى سوى بالديمقراطية الكاملة، نابذا كل محاولة للتدخل في إرادته، متذكراً تاريخاً طويلاً من هذا التدخل، من بداية تأسيس المجلس مروراً بمصيبة تزوير انتخابات 67 وصولاً إلى الحل غير الدستوري للمجلس ثم الحل وراء الحل الدستوريين له دون نسيان المال السياسي وتدخلات أبناء الأسرة الحاكمة، في محاولات مستمرة لتطبيع وتطويع إرادة الشعب. لم يعد هذا مقبولاً ولا محتملاً، وسيستمر الحراك الشبابي السلمي إلى أن يسد الخرق في سفينة الديمقراطية الكويتية. إلا أن هذا الحراك لا يتمثل بمسيرات عشوائية في المناطق السكنية تعرض الجميع، المتظاهرين ورجال الأمن، لخطر مواجهة لم يعد لها غاية ولا هدف. الشباب الصغير الذي يخرج الآن في هذه المواجهات العنيفة هو شباب مقهور يشعر بعشوائية الموقف والإقصاء، وهو شباب مندفع تحولت المشكلة بحراكه من مجرد سياسية إلى أخرى اجتماعية عميقة الخلل شديدة الوطأة علينا جميعاً. كان من الممكن تفادي هذه المرحلة وتحقيق الهدف المنشود بإصلاح النظام الانتخابي بطريقة أفضل وأكثر حكمة، وإن كانت أطول زمناً، وأكثر شمولية لكل فئات الشعب. كان يمكن للحكومة أن تحقق مبتغاها في المجلس، وكم حققت وكم مررت، إلا أنها اختارت الإقصاء والمواجهة مع شباب يشعر بالإقصاء مقدماً، واليوم كلنا ندفع الثمن.
ولقد كنت أنتظر حتى تنتهي الفترة الحارقة الماضية لأعلق، إلا أن التعليق تعلق، والكلمات جمدت أمام هول الأسلوب. لطالما آمنت أن نصف الفكرة أسلوب التعبير عنها، ولطالما وعدت نفسي أنني أينما آمنت، أترك شيئا من نفسي للتشكيك، ألا تأخذني العزة بالإثم فأجزم بأنني الحق والحقيقة، وأنني النبيهة والآخرين “متخلفون وزيادة” وأنني التقدمية والآخرين رجعيون حتى لا أضيع في لجة من الثقة وأفتقد التواضع الذي يبقي العين مفتوحة، والضمير نابضا والمحاسبة مستمرة بيني وبين نفسي. لقد شُحذت أنصال الكلمات في الفترة الأخيرة، واستل الكتّاب السيوف عوضاً عن الأقلام، في حين أن القسوة والسخرية والعنف اللفظي كلها تدخل في باب حرية الرأي إلا أنها بالتأكيد تخرج عن حسن التعبير عنه، وتهبط إلى منزلة الاستشفاء والتنفيس عن الغيظ عوضاً عن النقد البناء المراد منه تغيير.
يا سيدي، لطالما كنت لي وللكثيرين غيري مثلاً، كيف نحتفظ بك وقد شتمتنا وعزلتنا وجلست في مجلس الكمال، فحكمت بالحق والباطل، ثم انتقلت إلى مجلس القضاء فحكمت بإساءتنا وتخلفنا وغبائنا، ثم تحولت إلى مجلس كبير العائلة فأخذت فينا تعزيراً وتقريعاً؟ لطالما ارتبط في ذهني حسن الرأي بحسن التعبير عنه، فإن ساء التعبير ساء الرأي، أو على الأقل ساءت سمعته. لقد نزلت بسوطك على من كان دوماً ينظر إليك، فأرسلت رسالة ألا بأس من القذع والتجريح إذا كنت أعتقد أنني على حق. وأنا أتمنى على محبيك بحق كل مقالاتك وتاريخك وما تعلمنا منك، ألا يتبعوك في منهجيتك الحالية، ألا يعاملوك بالمثل، أذكرهم بدروسك القديمة علها تحميهم من جديدك المؤذي. لكنها تبقى حرية رأي، هكذا تعلمنا منك، عل “علامنا” هذا يفيد اليوم مع أستاذنا.