يقول تشارلز داروين عالم الطبيعة والأحياء الثوري للقرن التاسع عشر، والذي غيّر وجه العلم عموماً ووجه البيولوجيا تحديداً بتطويره لنظرية التطور للكائنات الحية، والتي هي اليوم من أقوى النظريات العلمية الموثقة بالكثير من الأدلة العلمية المرئية والمحسوسة، والتي يعتقد بها مفكرو وعلماء الأديان التنويريون، بمن فيهم المسلمون منهم، يقول داروين إن لكل الكائنات الحية جداً واحداً مائياً هو ما تطورت منه كل الكائنات على سطح الأرض على مدى ملايين السنوات. كل البشر “الهوموسيبيان” وهو فصيلنا البشري الحالي، تطور من فصائل بشرية أخرى، تطورت بدورها من فصائل كائنية أخرى، ممتدة عبر زمن سحيق لا يستطيع عقل إنسان تصوره أو تخيل سنوات بُعده، عودة إلى كائنات وحيدة الخلية كانت تسكن الماء في بداية تَكوُّن الحياة على الأرض. كلنا، بتنوعنا وألواننا وأصولنا وأعراقنا ننحدر من كائن مائي وحيد الخلية، كلنا مترابطون بعضنا ببعض وبالكائنات الحية الأخرى جميعها عن طريق جد أوحد نشرنا على سطح الأرض، هل يا ترى تستطيع هذه المعلومة العلمية الموثقة أن تؤثر في غرورنا السخيف وتعمق من حواراتنا الغاية في الضحالة واللامنطقية والحمق الفكري؟
في مقابلة مع د. سليمان الخضاري دارت حول وضع “البدون” في الكويت، جاء الحديث على نشأة البدون وعلى بعض الألفاظ العنصرية التي يتداولها المجتمع إشارة إلى الموضوع. هذه الجوانب في المقابلة أخذت دقائق قليلة، إلا أنها في “تويتر” استحوذت على الحوار تماماً، ليتحول النقاش من ذاك الدائر حول قضية مدنية إنسانية إلى آخر دائر حول قضية الحضر والبدو، الأصول والأعراق، عيال بطنها وغير عيال بطنها، حوار لو وقف العلم عنده لاقتلعه من عرقه سخرية واستهزاء، لأباده عن بكرة أبيه بسخافته وضحالته وكذب كل تفصيل من تفاصيله، حوار لو سمعه داروين لاغرورقت عيناه بدموع سخرية من شعوب هبطت من كائن وحيد الخلية ولا تزال تتصارع وتتناحر حول أصولها وأعراقها ونقاء دمها، أكبر كذبة وأضخم سخافة صنعها الإنسان ثم صدقها.
لربما من المفيد جداً لو أن الكويت دفعت لكل فرد من أفراد شعبها قيمة تحليل الدم الذي يكشف البعد العرقي والامتداد الأصولي والذي يعتبر أحدث التحاليل الحالية القادرة على سبر غور البيولوجيا التاريخية الإنسانية. هذا التحليل، بشهادة من أجراه، كشف ضحالة الكثير من الأفكار وسخف الكثير من الاعتزازات وهلامية فكرة الأصول والامتداد العرقي، وحقيقية فكرة التشابك البشري والتجذر بجذور لا يمكن أن يتوقعها إنسان. هذا التحليل باعث مهم على التواضع، تجربة مهمة كاسرة للأفكار البائدة المريضة حول الأصالة والعراقة، ومحطم قوي للفخر المزيف تجاه الامتداد الدموي النقي الذي لا وجود له في واقع الإنسان البيولوجي. تطور العلم وعرفنا حقيقة أصولنا المتواضعة جميعاً، فرداً فرداً على سطح الأرض، بل تعلمنا عن حقيقة جنسنا المتوحش الذي قضى على كل الأجناس البشرية الأخرى التي عاشرته مثل النياندرثال وغيرها، اكتشفنا أخيراً سخف الفخر بالأصول الكاذبة والعراقة الزائفة والدماء النقية الهلامية، والتي هي كلها أفكار حطمها العلم وأثبت سخفها العميق وتفاهة بنائها الركيك. ومع كل ذلك ورغم كل ذلك، لا تزال هناك أعداد ضخمة من سخفاء فارغي البشر الذين يتمسكون بعراقة الأصل ونقاء الدم والامتداد الأصولي، لا يزالون يقولون “عيال بطنها، وأصيلين، ومو من مواخيذنا” ويتغنون بأمجاد عائلاتهم وعراقة سلسال دمائهم وعظمة أصولهم، وهم وأنا ونحن جميعاً، مجرد كائنات منحدرة من سمكة. في بعده الحقيقي، ولمن يستطيع رؤية الصورة من الخارج، المنظر متشرذم، مجنون، غاية في الكوميدية، سخافة ليس لها أي عقل أو منطق، أساطير بشرية لا أساس ولا عقل ولا أصل علمياً ولا حقيقة تاريخية ولا معنى حاضراً مؤثراً لها، أفكار فارغة بائدة لا تغير من واقعنا المرير، ولا تضيف لنا شيئاً، ولا تثبت سوى غرابة ولا منطقية العقل البشري الذي هو بعد في أول مراحل تطوره بدليل الخرافية الشديدة والمضحكة والمخجلة لتفكيره. فرحان أنت بأصالة دمك؟ دمك وشحمك ولحمك لا يسوون في سوق العلم أكثر من قيمتهم العلمية البيولوجية، مثلك مثل أفقر إنسان في إفريقيا أو شرق آسيا أو جنوب أميركا، لا قيمة لدمك عن دمائهم فلس واحد زائد. وحتى نفقه هذه الحقيقة ونتصرف على أساسها، سنبقى أضحوكة العلم ومصدر استغراب واستسخاف العالم أجمع ومحور سخريته ومصدر “لوعة كبد” للقادر على رؤية الصورة الحقيقية الفقيرة لوجودنا المسكين.