ماذا يحدث عندما ينغلق المجتمع؟ ما نتائج فصل عناصره الطبيعية عن بعضها وغمسه في بحر هائج من الخرافات ثم احتوائه في قارورة عفنة من المحرّمات والمحظورات وإحكام عنقها بالخوف وعذاب الضمير؟ كل المجتمعات التي تعرضت وما زالت لمثل هذا الانغلاق الوحشي اللا إنساني تصبح، وبلا استثناء، مجتمعات مظلمة، تنحدر فيها الأخلاق الانسانية وتبنى فيها العلاقات على السرية النتنة. لننظر حولنا، كل المجتمعات التي تحكمها قبضة رجال الدين اليوم، أياً كان هذا الدين، ترتفع فيها مؤشرات الفساد، تنحدر فيها أخلاقيات الناس، تتدنى فيها سلطة الضمائر وتفسح الطريق لصوت «الرجل الصالح» الذي يبرر ويؤثِم طبقاً لمفهومه الأوحد السلطوي الذي لا يخلو، في أفضل الحالات، من أنانية وبحث عن مصلحة خاصة. لننظر حولنا، المجتمعات التي تحكمها سلطة دينية ترتفع فيها نسب الاتجار في المخدرات والدعارة وشرب الكحوليات، والانحلالات الأخلاقية بكافة أنواعها، لمَ؟ لأن هذه المجتمعات ترعى السرية، مجتمعات تخويفية تجبر أفرادها على الاختباء والالتفاف والتحوير، تمنع وتقمع فتشهي أنفس البشر بالممنوع، مجتمعات لا تعرف الإقناع والتوعية، بل تعرف السوط والسيف والحجر، وعليه، ينقلب أفراد هذه المجتمعات عليها، يتحدّون السوط بسرية، يبصقون في وجه السجان في الظلام، يقاومون الحجر في السر، ومع الوقت تتعفن النفوس وتضيع الأخلاق ويصبح هَم هؤلاء الأفراد الاستمتاع بمباهج حرمها الرقيب بغوغائية وبأي وسيلة ممكنة. لن اشير إلى هذا المجتمع أو ذاك بالاسم، لا نحتاج إلى أن ننظر إلى أبعد من أحد أسواقنا لنرى أين وصلنا بأخلاقياتنا الهشة المبنية على الخوف وعذاب الضمير. ذهبت ومجموعة من الصديقات لحضور فيلم ثالث أيام العيد بعد انقطاع طويل عن السينما بسبب مقص الرقيب الذي يقطع نياط قلبي. المهم، أوقفت سيارتي في آخر طابق مكشوف في الآفينيوز لأكتشف أن المصعد كان معطلاً، أخذت السلالم هبوطاً متبوعة بعدد من الشباب الذين قد لا يكونون تجاوزوا الخامسة والعشرين، تتبعوا خطواتي وهم يهمهمون أصواتاً تعيب على أعمارهم. أكملت طريقي إلى دار السينما لتباغتني أنماط لم أعهدها في الكويت من قبل. لن أعيب على أحد ملبسه، فبالرغم من ابتعادنا الحزين عن أناقة الماضي الراقية، فإنني من المؤمنات بالمثل الذي يقول «كل وقت وله أذان» أتقبل بطيب نفس الألوان والأشكال الغريبة، لكنني لا أتقبل بتاتاً التصرفات الصغيرة التي تصاحب هذه الأشكال. تتمشى الفتيات فخورات بغطاء رؤوسهن الذي غالباً ما يحمل اسم الماركة بالخط العريض عليه، بينما تدور عيونهن باستهانة نحو غيرهن، لا تبتسم احداهن في وجه الأخرى، بل ترتفع الأصوات بضحكات صفيقة استهانة بغيرهن من المارة، أما الفتيان، فلا خوف عليهم، فهم يضحكون ملء الأشداق للمارات، ومن لا تتجاوب، فهناك فرصة كبيرة لأن تتلقى كلمة وقحة أو حركة بذيئة بلا خوف أو حياء. هناك كذلك صنف الرجال الأكبر سناً، في الغالب يصطحب زوجة مغطاة الرأس أو مغطاة الوجه بأكمله، وما تفوت «كاسية عارية» مثلي بجانبه حتى يعطيها نظرة كاملة من الأعلى إلى الأسفل، لتستقر على الثلث الأخير من الساقين، ثم ترتفع النظرة، بعد أن شبعت مسحاً على الأجساد، لتستقر باشمئزاز على وجه «العارية» عقاباً لها على هذا «الكشف» البذيء. الأغلبية الآن لرؤوس ملفوفة بملافع مترترة غالية الثمن، ولدشاديش قصيرة ولحى طويلة، تصاحبها أغلبية أخلاقية…حزينة. لا يصبر أحد على دوره في طابور، لا يمسك أحد لغيره الباب، لا يبتسم مار في وجه الآخر، نظرات استهجان، قهقهات غليظة، تعليقات قميئة تقلب النزهة الى حرب باردة. أكمل لكم حكايتي، دخلنا الى السينما وأخذنا مقاعدنا بعد ما بدا دهراً من التدافع بين بشر غلاظ قساة الأخلاق لا يمتون إلى الكويتيين الذين أعرفهم بصلة. ما بدأ الفيلم حتى ارتفعت قهقهات عدد من الفتيات الجالسات خلفنا، واستمر الضحك الوقح طوال الفيلم. التفتنا جميعاً في اتجاههن عدة مرات، وتمتم البعض «ششش» بضيق من وقاحتهن، الا أنهن استمررن وبصوت أكثر علواً الى أن التفتت صديقتي التي تجلس أمامهن مباشرة لتطلب منهن التوقف. بعد أن انتهى الفيلم وبينما نحن نحمل أغراضنا لنخرج، جاءت الفتاة المترترة بغضب نحو صديقتي لتزجرها: «اذا مو عاجبك، طلعي من الفيلم، أعطيك ثلاثة دنانير تدخلينه مرة ثانية.» أمسكت بذراع صديقتي أبعدها عن طريق الفتاة وقد نبأنا اختلاط الترتر بأصباغ وجهها وتدبب حاجبيها ولهجتها بما لا تحمد عقباه. خرجت من السوق وقلبي تتسارع ضرباته، لا أدري خوفاً أم غضباً؟ وتذكرت أسواق أميركا، رقيها، ابتسامات روادها، التهذيب الأخلاقي، افلام منتصف الليل التي كنت أرتادها والصديقات بكل أمان، تذكرت الشورتات والتنانير القصيرة التي تعتبر هنا من الكبائر، وما يلازمها من تهذيب، وحجابات ولحى ودشاديش الكويت التي تعتبر مظهر العفة والحشمة وما يصاحبها هنا من صفاقة، تذكرت الشعور الشقراء والوجوه البسيطة الخالية من الأصباغ هناك، والشعور المخبئة والوجوه المصبوغة والحواجب المدببة هنا، تذكرت مولات أميركا التي تمتلئ بالكفار الذين سيذوقون عذاب الجحيم في الآخرة…تبدو نظرية حقيقية، لنا الجنة نحن، فجحيمنا هنا على الأرض.