لم يفهمني

التفتّ إلى زوجي سائلة: «هل تتألم ونحن نشاهد هذا المسلسل؟» سألني عما أعنيه، فقلت إنني أجد صعوبة في متابعة حلقات مسلسل The Handmaid’s Tale الأمريكي الذي يحكي عن «ديستوبيا» في المستقبل غير البعيد، حيث تتحول معظم المناطق الأمريكية إلى مقاطعة جيلياد المتدينة المتطرفة الــــي تستعــــبد النساء وتشيئهن كأدوات لخدمة الرجل وتزويد البشرية بمزيد من البشر بعد أن أصيبت النساء في معظمن بالعقم نتيجة التلوث البيئي والإشعاعي، ما حول هؤلاء ذوات الخصوبة إلى «سلع» غاية في الأهمية.
نظر إليّ زوجي للحظة ثم قال: هي قصة حزينة كآلاف القصص الأخرى، هي قصة عبودية. عدت أسأله: ألا تجدها تحديداً صعبة المشاهدة؟ أجاب: ليس أكثر من قصص العبودية والتعذيب الأخرى. علقت بصوت خفيض: هذا المسلسل يؤذيني بشكل شخصي. فسأل بصدق وبنية حقيقية للتخفيف: لماذا؟ إنك لم تختبري العبودية بشكل شخصي حتى يأخذ منك هذا البعد المؤذي. نظرت إليه بطرف عيني وختمت: صدقت، حبيبي.
الحقيقة أنه لم يفهمني، هذا الرجل الذي يفهم كل رفة من رفّات قلبي، لم يفهم هذه المعضلة تحديداً، وكيف يفهمها وهي جينية، تستشعرها النساء فقط بتركيبتهن الجسدية وبتاريخ آلاف السنوات الذي تحمله كل واحدة منهن على جسدها وفوق ظهرها وفي داخل أحشائها؟ كيف أوصل له فكرة هذا التواصل الفعلي بيني كامرأة وبين الشخصيات؛ أنني أعرف ما يشعرن به في اللحظة، أفهم نظرات عيونهن المعذبة، الكلمات المغلفة والأصابع المرتعشة، كلها أعرفها حق المعرفة وإن لم أعشها، هي في تركيبتي الجينية، هي في موروثي الطويل، هي كلها في صناعتي.. امرأة تعيش على كوكب ذكوري شوفيني لا يرى فينا أبعد من قطع لحم مرغوبة فقط إلى حين.
مما يستعرضه المسلسل الطريقة التي يستخدم فيها ثوار جيلياد النصوص الإنجيلية لكي يحقق المجتمع الذكوري المنشود: طاعة النساء الكاملة، التزامهن بأدوارهن البيتية والبيولوجية، وخضوعن للعقوبات الشرعية مثل العزل والضرب في أخف الأحوال. نساء كنّ، في زمن ما، طبيبات ومهندسات ومدرسات وأستاذات جامعة، تحولن بعد الثورة إلى جوار يخضعن إلى «مراسم» الإخصاب التي يعاشر فيها الرجل الجارية في وجود زوجته وهي تمسك بها له، تلك الصورة الفاحشة من الاغتصاب ليست بأسوأ الممارسات في جيلياد المسيحية.
المروع في المسلسل أن كل ما تذكره القصة ويتحول إلى مشاهد على الشاشة هو حقيقي، لا يأتي المسلسل على ممارسة واحدة بحق النساء لم تحدث مسبقاً أو لم تقع في واقع الحياة. أتخيل، وأنا أشاهد المسلسل، واقع ملايين النساء وهن يغتصبن ويعذبن ويحبسن ويضربن ويهنّ ويعلّقن على المشانق وتحرق منهن الأيادي والأقدام، ويستخدمن للمتع الخالصة وكأنهن قطع لحم بلا أعصاب، فأتساءل أي موروث نحمل نحن النساء على ظهورنا، وكيف لا نزال نعيش بهدوء دون أن نثور ونحرق هذه الأرض وكل ما ومن عليها؟
أرشف الشاي وآكل قطع الشوكولاته الداكنة للمحافظة على الصحة والوزن وأتابع صرخات النساء على التلفزيون، وأتساءل عن غرابة الأقدار وبعد المسافات وغياب العدالة التام، من سيعوض هؤلاء النساء؟ كيف سيكون لحيواتهن الضائعة معنى ولآلامهن ثمن؟ وعلى الرغم من المسافة البعيدة بين حياتي وحيواتهن، فأنا أحمل آلامهن في خلايا جسدي، أفهم معاناتهن في نظامي العصبي، أرى بعيونهن النظرة الناهشة كلما صادفت «ذكراً» بغيضاً ينظر بسفالة إلى النساء من حوله، أسمع بآذانهن ألفاظ العنصرية المريضة كلما سمعت مختلاً يتفاخر بغزواته النسائية، وأشعر بجلودهن من خلال خلاياي التاريخية التي تحمل قصصهن من آلاف السنوات، منذ أن بدأ جنسنا «الهوموسيبيان» يظهر وينقسم ويتحول من مجتمع يعبد أنثاه إلى آخر يستغلها ويستعبدها.
تنفر كل ذرة في جسدي وأنا أشاهد المسلسل، لكنني أتسمر أمام حلقاته، كأنني أعاقب نفسي على مصيري المختلف، كأنني أقسر نفسي على تذوق شيء طفيف من المعاناة. تتلوى أمعائي بعد كل حلقة ويستقر القرف حامضاً في بلعومي وأنا أواجه نفسي: كل ما ترين على الشاشة حقيقي، عاشته أخريات من بني جنسك، يحمِلن تركيبتك الجينية، دماؤهن وخلاياهن صَنَعت دماءك وخلاياك، فيربكني غضبي العارم، وتودي بي ثورة تغلي في نفسي كأنني إبريق صفيح فارغ يكاد ينفجر على جمر حارق. متى تصبح مآسينا ذكرى وتصفو لنا الحياة؟