على حساب ممــــيز على «إنســــتغرام» اسمه «بشر نيويورك» الذي تجري من خلاله مقابلة أشخاص عاديين مختلفين لسماع قصصهم المنفردة مهما بلغت بساطتها أو درجة عمقها، في محاول لإضفاء أهمية خاصة على كل قصة إنسانية منفردة، تقول طفلة صغيرة تمت مقابلتها: «يعتقد ويفترض الكبار أنني لن أفهم الأشياء فقط لأنني طفلة صغيرة. وهذا قد يكون محبطاً، لأنني فعلاً أريد معرفة أشياء، أو حتى عندما يكلمونني عن أشياء دوماً ما يحاولون «تخفيفها إلى مستواي». هم يتفادون خصوصاً المواضيع الثقيلة مثل الجنس والموت وأكل لحوم البشر وأشياء أخرى، إلا أن هذه هي الأشياء التي أود الحديث عنها، وأنا فعلاً مذهولة بقصة مجموعة دونر. الحملة بأكملها في الواقع ما هو الشعور وأنت تأكل أشخاصاً تعرفهم؟ أنا مأخوذة كذلك بكيفية تعامل العقل الإنساني مع موضوع الموت، إنه كما لو أن الناس يغلقون موضوع الموت تماماً، ويصرون على أن الجنة والنار هي أماكن ما بعد الموت، إلا أن الموت هو الموت، وكل فرد بعد الموت هو ميت، لأن الوعي هو عقلك فقط. وحتى إذا ما كان هناك دليل على حياة بعد الموت، فإنه من الصعب تقييمه. سنكون منحازين تماماً تجاه أي معلومة تقول بأن هناك المزيد. لأننا مستميتون جداً لتصديقها».
هذه عينة من تفكير طفلة في القرن الحادي والعشرين، وفي حين أنها لا تمثل تفكير كل الأطفال، ولربما ليس أغلبيتهم العظمى على وجه الأرض، إلا أنها تمثل عدداً جيداً متزايداً من حملة هذا التفكير النقدي الجاد وفي عمر صغير. لم يعد أطفال اليوم راضخين للتفسيرات القديمة أو الأفكار التقليدية، أصبحوا يريدون المزيد، أصبحوا يصرون على أن يقتنعوا لا أن يتلقوا فقط. إن الإبقاء على التفسيرات الوجودية القديمة بلا محاولة لتطويرها أو قولبتها في قوالب علمية ممكنة أو حتى على درجة ما من المنطقية التي تبيح التفكير والتمحيص- لن يبقى مقبولاً إلى زمن مقبل بعيد. اليوم، يملتك الأطفال أسلحة اطلاعية خطرة، عالماً رقمياً لا نهاية له، بئر معلومات سحرية، كلما أخذوا منها قال لكم هل من مزيد. من المهم جداً أن تواكب الإنسانية، وخصوصاً إنسانيتنا الشرق أوسطية، التطور العلمي والمعرفي، ولكن ألا تغفل كذلك التطور الاتصالي، تطور سهولة اقتناء المعلومة على تنوعها وعلى تباعد أطراف نقائضها. مهم جداً أن نعترف أن الحشو المعلوماتي القديم، على قوته الكبيرة المستمرة، لن يستمر طويلاً ولن يصمد بعيداً، سرعان ما سيكتشف الصغار أن للسؤال ألف إجابة، وأن لكل إجابة ألف سؤال، ومَن مِن هؤلاء الصغار يقرر أن يتعمق أكثر سيتسنى له ذلك، وفي الغالب سترتفع أعداد المقررين على هذا التعمق، وسيزداد عطشهم لمنطقية الأجوبة والأفكار، هذه طبيعة زمنهم، تلك هي نوعية أدواتهم، لا يمكن أن تطلب من إنسان يتعامل مع كمبيوتر ذكي يتنقل معه حيثما ذهب، مع أداة تعمل بالأرقام البحتة والمنطق الخالص، أن يبقى يقرر ويفكر ويتمعن بالطرق القديمة وأن يقتنع بالبساطة السابقة، تلك التي لن تعود مطلقاً بعد أن تحول كل منا إلى قنبلة معلوماتية موقوتة تمشي على الأرض.
تستمر محاولات كثير من العلماء، منهم كذلك المسلمون، للوصول إلى مفاهيم منطقية حول غيبيات مسيطرة. هناك مثلاً محاولات جادة لتمحيص فكرة الحياة بعد الموت، لفلسفة الجنة والنار، للوصول إلى فهم أعمق وأكثر جدية لعذاب ما بعد الموت على سبيل المثال، حيث يذهب البعض ممن يؤمن باستمرار الحياة بعد الموت وبمفهومي الثواب والعقاب، أن الأخير سيكون نفسياً مثلاً، وأن المعاناة ستتجلى في إعادة صياغة الأخطاء تشخيصاً أمام الشخص ليتعذب بتكرارها. هناك كذلك من يفلسف الإثابة على أنها مفهوم شخصي، أي أنه ستكون لكل إنسان جنته الخاصة به التي هي من صنع وعيه، حيث سيعيش حياة ما بعد الموت في الوعي الذي خلقه وفي التصور الذي صنعه هو إبان حياته لربما من خلال امتداد ما لتفاعلاته العصبية التي ستتحول إلى نوع آخر من الوجود انطلاقاً من القانون العلمي أن «الطاقة لا تفنى» المستخدم هنا لتقديم صورة أكثر علمية مثلاً لما قد يحدث للحالة العقلية للإنسان بعد الموت.
هناك الكثير لنعرفه ونكتشفه، حيث سيحمل لنا المقبل من الأيام المزيد من الاكتشافات التي لا يمكن لعقولنا الحالية أن تتصورها. الأهم هو أن وضعنا العلمي أوصلنا إلى مرحلة لم تعد فيها التفسيرات والأفكار التقليدية مشبعة تماماً، سيريد الصغار المزيد، وعلينا أن نوفر هذا المزيد بعقول متفتحة متقبلة «لحق السؤال» الذي بات حقاً إنسانياً خالصاً وواقعاً مفروضاً لا مفر منه. ستتلاحق الأسئلة، ولن تعود الإجابة بحرمة السؤال أو بقصر عقولنا الإنسانية شافية، سنحتاج إلى العقل والمنطق، سنحتاج إلى العلم لنسكن الجوع المتوحش القادم للمعرفة، لا بد أن نعد أنفسنا لذلك. وتبقى المعضلة التي لا بد أن نواجه أنفسنا بها «لماذا نخاف من السؤال؟».