ترى كيف هي قلوبكم؟ وماذا تصنع بها خيبات الأمل؟ في مقال سابق، كنت قد كتبت في الحزن وحول شعوره واضح المذاق، هذا الشعور السكري اللذيذ الدافئ الثقيل، كأنه شوكولاتة داكنة ذائبة تسري في الجسد وتسد منافذ النور فيه.
الحزن معتم، هادئ، له موجات مطوية ثقيلة من الوجع تأتي وتذهب دون إنذار، إلا أن للحزن كثافة تجعله يجلس مستقرا في قعر القلب، واضح المعالم مريح النكهة في ما يصاحبه من يأس ولا مبالاة.
أما خيبة الأمل، تلك العدو اللدود، فهي غرائبية المذاق هلامية الوجود، ذات طعم لزج جاف لا نكهة واضحة فيه. خيبة الأمل ليست حزنا ولا ندما ولا غضبا، خيبة الأمل مزيج من هذه كلها، وخارج نطاق هذه كلها، ذات مذاق كأنه ذاك الذي لقطعة الحلوى القطنية التي تختفي قبل أن يظهر لها طعم في الفم، أو لربما هو ذلك الذي لقطعة قصب السكر التي بعد ثوان من لوكها تتحول إلى شرائح خشبية جافة مائعة لا ذكرى لسكريتها التي كانت قبل ثوان واختفت في أقل منها.
خيبة الأمل… شعور سخيف هي تلك الخيبة، فهي توحي بأن آمالك كانت أعظم من واقعك وأن تطلعاتك كانت أكبر من حجمك. خيبة الأمل (مع الاعتذار عن التعابير التي أصف بها نفسي لا القارئ) تشير لسذاجتك، لقلة خبرتك، ولغباء مشاعرك، تلك التي أطلقتها أنت في فضاء مثالي، لتتشكل وتتبلور بشكل غير واقعي وفي مساحة مثالية غير موجودة.
خيبة الأمل هي مؤشر على اختلال مقاييسك وانحراف توقعاتك، وعدم تعلمك الدرس، أنت كما أنت وخيبات الأمل كما هي، “فمتى أنجو من الأسر وتنجو؟ لست أدري”¹. خيبة الأمل هي أن تبذل جهدا تسرقه واسطة؛ أن تنتظر وعدا تنهبه مصلحة؛ أن تقول أحبك لمن لا يردها لك؛ أن تضحك في وجه من لا يعيدها إليك. خيبة الأمل هي أن تحرق السنوات وتبذل المحبات وتبني الآمال وتحفر في صخر الحياة لتصنع حبا وقربا وأمنا لا يتحققون؛ خيبة الأمل لعينة، سخيفة، ضارية، ولربما مهينة، لا حل معها إلا في حرق مصدرها: عمق قلبك.
حين يخيب أملك في العشرين، تعرف أن لديك فرصة أوسع في الثلاثين، وحين يخيب أملك في الثلاثين، تعرف أن فرصتك أنضج في الأربعين، أما حين يخيب أملك في الأربعين، تدرك حينها أنه نمط سلوكي ومشاعري، وأنك تدور دورة كاملة حول الآمال لتعود لذات نقطة البداية.
تدرك أنك عطارد محترق حول الشمس أو فأر محبوس في مصيدة دائرية أو شخصية الزوجة في قصة شارلوت بيركنز جيلمان المعنونة “ورق الجدران الأصفر”² والتي في نهاية القصة يجدها زوجها وقد هبطت على ركبتيها وراحتي يديها وأخذت تدور وتدور حول غرفتها وكتفها الأيسر ملتصق بالحائط في مشهد مرعب جراء حبس زوجها لها في إجراء “طبي” كان يتخذ تجاه النساء حتى القرن التاسع عشر وكان يسمى “علاج الراحة” ـ ربما تكون هذه القصة موضوع مقال قادم. تدرك أنك عربة في لعبة دولاب الملاهي، أو سمكة في بحيرة مغلقة، في الأربعين ستدرك أنك، ولا مؤاخذة، وأنا وكلنا “عبيطين”.
كيف نتفادى خيبة الأمل؟ بأن نتوقف عن تشكيل التوقعات؟ وكيف نوقف تشكيل التوقعات؟ بأن نقطع حبال التمنيات؟ وكيف نقطع حبال التمنيات؟ بأن “نقطع الأورطي ونسيح دمه” على قولة الأحبة المصريين، لتنتهي التوقعات والتمنيات والحياة بأكملها، فحياتنا، بيولوجيا، مشروطة بالأمل، والأمل مشروط الأمنيات، والأمنيات بالتوقعات والتوقعات بالخيبات، وندور وندور في هذه الدائرة النفسية البيولوجية؛ بلاها لا نحيا وبها نموت كل يوم.
المزاج داكن، لربما أكثر ظلاما مما يحتمله مقال، ولكن خيبات الأمل هذه، هي لسان حالنا اليومي، حتى أنها أصبحت جزء من نفسياتنا ولا وعينا، مدفونة عميقا في أكبادنا ومعصورة تماما مع أحماض معداتنا. خيبات الأمل هي عنوان الحالة البشرية، وهل من خيبة أمل أكبر وأسخف من خيبة الموت؟ بعد كل ما نبذل ونفعل ونحب ونكره ونحارب ونتصارع ونتعلم ونكتب ونقرأ ونوثق ونسجل ونقتني ونبني، نموت، هكذا، نفنى ونموت، فهل هناك خيبة أمل أسخف وأشد وأحلك من هذه؟
ولأنني لا بد أن أكون كاتبة طيبة، لا بد أن أترك فسحة من أمل لتضيء شيئا من عتمة هذا المقال. ليست كل الآمال تخيب، فهناك آمال تتحقق وهناك أفراح تتجلى، وهناك حلوى قطنية تدوم في الفم وقطعة قصب سكر لا تنتهي حلاوتها؛ هناك آمال لا تغتالها واسطة ووعود لا تسرقها مصلحة، هناك ضحكات مردودة ومحبات متبادلة؛ هناك عطارد يصفو جوّه وعربة ملاهي تصل لنهاية طريقها وزوجة من القرن التاسع عشر تجد العدالة والإنسانية؛ هناك موت بعده حياه وحياة لا موت بعدها، هناك الأمل في الأمل في الأمل الذي لن يتحقق، والذي لا بد أن نستمر في إيماننا بأنه سيتحقق ليخيب أملنا ونخيب ونعيد الكرة. هناك كل هذه الأكاذيب، وهناك التمني أن تتحول الأكاذيب إلى حقائق في يوم ما، التمني الذي به نحيا ونستمر ونواجه الحياة وفناءها. كل عام وأنتم بخير وأمل.
¹بيت من رائعة العبقري إيليا أبو ماض “الطلاسم”
²رواية قصيرة رائعة من عبقريات الأدب النسوي، عنوانها الإنكليزي The Yellow Wallpaper