دار حوار ساخن قبل أيام بيني وبين موظف مصري يعمل بائعاً في أحد المتاجر في الكويت حول الوضع المصري الداخلي. تكلمت مع الشاب ناقدة الأوضاع السياسية المصرية، وقبل أن أتوغل بشكل أعمق إبداء لرأيي، بدا على وجه الشاب تعبير انزعاجي أعرفه جيداً، تعبير يود أن يبادرني بالعامية المصرية: “وانتِ مال أهلك؟” بادلته النظر مباشرة في عينيه وسألته “أزعجك رأيي؟”، رد محتداً وإن محاولاً بكل ما لديه من إرادة أن يسيطر على غضبته: “بالتأكيد أنزعج حين ينتقد أحد بلدي، ألا يزعجك انتقاد بلدك؟”، رددت متلطفة: “نعم، يزعجني لكن لا يغضبني”، سَكَتُّ لحظة أتقصى هدوء روحه وأكملت: “أنزعج من عيوب قد يراها الآخرون في وطني، ولكن لا يغضبني ولا يحق لي أن أغضب من انتقاد هؤلاء للكينونة السياسية التي هي الدولة، والتي هي ليست حكراً على فئة معينة من الناس ولا محكورة داخل حدودها الجغرافية اليوم”. حرك الشاب شفتيه محاولاً قول شيء ما، فاستأذنته أن أكمل: “اسمع يا سيدي، خرافة الشأن الداخلي وأسطورة الحدود الجغرافية الفاصلة سقطتا اليوم. ليس هناك شأن داخلي داخل حدود معينة لا يحق لمن خارجها التدخل فيها. البشرية سلسلة واحدة مترابطة. وعليه، ما يحدث في مصر يؤثر علينا في الكويت، وما يحدث في الكويت مؤثر عندكم في مصر، إنما هي طبيعة الحياة البشرية والمنعكسة على الديناميكية المدنية التي صنعها البشر لتقسيم الأرض”.
ارتخت التشنجات التي تبدت على جبهة الشاب وخف الاحمرار الذي استوطن أذنيه، فبادرته معتذرة محاولة سحب كيسي ومغادرة المحل، إلا أنه استوقفني قائلاً إنه يتفهم تماماً وجهة النظر، لكن عليّ أنا كذلك أن أتفهم المخاطر التي كانت مصر تعانيها والتطورات التي هي اليوم تستمتع بها. أخبرته أنني للتو عدت من زيارة لأرض الكنانة، وأنني لاحظت الفروق فعلاً؛ هي اليوم جميلة وفي بعض مواقعها فاخرة، وتحركت مولية وجهي وجهة الباب، إلا أن الشاب سألني “وثم؟”، فوَّت ثانية، ثم سألته “تريد الصراحة؟” فأكد أنه كذلك، فرددت: “نعم، فروق مهمة حدثت على الأرض المصرية، إلا أنها فروقات لا تؤثر سوى على مستوى راحة السائح بالدرجة الأولى. على سبيل المثال، امتلأت البلد بالجسور التي لربما سهلت حركة سير السيارات وخففت من الزحام الذي اعتاد عليه أهل البلد، ولكنه يبقى مؤثراً ومعرقلاً للسائح، لكن يا ترى، ما فعلت هذه الجسور في هواء مصر؟ كيف تفاعلت مع مساحاتها وسكنى أهلها؟ أي رؤية غطت، وأي تلبك إسمنتي صنعت بالنسبة للمقيمين فيها؟”.
“اسمعني يا سيدي”، قلت للشاب، “حان زمن التحرر من العبودية والعشق للمخلّص الأوحد، حان زمن التخلص من شقاء الانتظار، الانتظار لبطل منفرد “يعدل المايل” وينقذ الوضع ويصلح الحال ليصطف الجميع خلفه هتافاً وعشقاً هياماً. هذا زمن ولى، إلا أننا كعرب، مرابطون فيه، نرفض مغادرته أو ترك أفكاره منتهية الصلاحية”.
“وماذا تقصدين” سأل الشاب، “أقصد أن هذا العشق العربي لفكرة البطل الأوحد ومن ثم تحميل هذا “البطل” منفرداً عبء هذا العشق وتوقع المعجزات منه، هو تصرف غير عادل وغير واقعي، وسينتهي إلى أولاً النفخ الشديد في أنا هذا الشخص حتى يكبر وينفجر في وجوه الناس، وثانياً إلى الفشل الذريع في تحقيق أي نجاح جمعي. النجاح الجمعي يحتاج إلى عمل جمعي لا إلى قرارات فردية وعشق أبوي وشمولية سياسية”.
“ما دامت السجون مفتوحة، والنفوس مهددة، والأفواه مكمّمة، فلن يتغير شيء. وجسور ومولات ومطاعم ومتاحف الدنيا كلها لن تغير الحال، فالتغيير يجب أن يصيب الداخل، أي الشعور الداخلي للفرد، شعوره بالأمان والاستقرار والحرية، لينعكس على وضعه الخارجي فيحسن معيشته ويؤمن كرامته”.
قفز الاحمرار مجدداً لأذنَي الشاب وهو يذهب مذهباً لم يستطع الخروج منه، فأخذ يعدد التغييرات ويمتدح الأحوال، ويعيد ويزيد في جملنا العربية التي نكررها جميعاً في كل بقاع الشرق الأوسط المنكوب حول ضرورة الصبر والتحمل، وأن الأوضاع لا تتغير أو تتحسن بين يوم وليلة، وحول أهمية التنازلات وضرورة التضحيات، هذه التنازلات والتضحيات التي لا يدفع ثمنها سوى العامة، هؤلاء الذين يدورون في تروس المكينة ليصنعوا الأموال التي يتمتع بها الكبار الذين، بدورهم، يطالبون “التروس” المطحونة بالتحمل والصبر والتنازل والتضحية.
كنت أنظر في وجه الشاب وأرى شفتيه تتحركان وكل ما أستطيع التفكير فيه هو علاء عبد الفتاح، هذا الشاب الملقى في السجن منذ 2011 على فترات متقطعة واستمراراً إبان آخر بضع سنوات، والذي دخل قبل أيام في إضراب تام عن الطعام محولاً إياه إلى اضراب كامل يشمل شرب الماء، بدءاً من يوم 1 نوفمبر. كم علاء يسكن السجون التي تكاثرت مؤخراً في مصر وفي بقية الدول العربية! وكم شاب مثل محدثي يقطن خارجها متغنياً بمناقب السجانين! كم شابة تتعذب في السجون وكم صنوة لها تدافع عن السجانين! كيف يتعذب بعضنا فيما يتعبد بعضنا الآخر في شخوص المعذبين؟ الكل ضحايا، بعضنا ضحايا وعينا، والبعض الآخر ضحايا غيابه، بعضنا يتعذب بالمعرفة والرفض، والبعض الآخر بالجهل والقبول والرضوخ، “فمتى أنجو من الأسر وتنجو؟”*
*للعظيم إيليا أبو ماضي