في مؤتمر نهاية أسبوع سريع في دولة عربية، وعندما دخل علينا في نهاية فعاليته أحد المسؤولين الرفيعين في الدولة وعضو أسرتها الحاكمة، فار غضبي لمقاطعته فعاليات المؤتمر، حاولت الإبقاء على دبلوماسيتي ما أمكن إلا أنني ما استطعت التفاعل مع الحوار .
يجب أن أعترف أن لدي نفوراً طبيعياً من السلطة وكل ما يتعلق بها، مظاهرها، مواكبها، ألقابها، المتزلفين الذين يتحلقون حولها، كل شيء لها وبها وحولها يشير إلى بقاع مخجلة من النفس الإنسانية، بقعة الشهوة للسلطة وبقعة الانكسار أمامها وبقعة الانبهار بأصحابها ومنافقتهم. وحتى المظاهر “الطبيعية” التي تصحبها تثير في غضباً غير مبرر ونفوراً غير مفهوم، الحراسة التي ترافقها، الألقاب التي تتلبس أصحابها، المكاتب المتسعة التي يقبعون في أعماقها مسبوقة بمكتب سكرتير لمكتب سكرتير حتى لتتصور أنك تغور في مغارة عميقة وصولاً إلى لبها السري الذي يحتوي على الكنز الثمين. أشياء ترفضها أعماقي لربما بلا مبرر، لا أريد أن أقف عند دخول سلطوي، لا أريد أن أدعوه بلقب ورثه ولم يعمل جاهداً من أجله، أنفر من خطابه حتى وهو يحمل شيئا من المنطق، أغضب من مروره على الصفوف المرصوصة أمامه مصافحاً، أغضب من اصطفاف الناس المصافحين، أغضب من الكلام المنمق، أغضب من الردود الودودة، كل شيء يثير غضبي ونفوري بلا مبررات واقعية. ربما أنا “روسوية” الهوى (نظرية جان جاك حول الحكومة والتي يعتقد أنها تشكلت لتحمي مصالح الأغنياء وتمنع مفهوم المساواة والعدالة الاجتماعية)، ولكن من الواضح أن لدي مشكلة “جينية” غضبية غير مفهومة تماماً حتى عندي.
وفي مؤتمر نهاية أسبوع سريع في دولة عربية، وعندما دخل علينا في نهاية فعاليته أحد المسؤولين الرفيعين في الدولة وعضو أسرتها الحاكمة، فار غضبي لمقاطعته فعاليات المؤتمر، حاولت الإبقاء على دبلوماسيتي ما أمكن إلا أنني ما استطعت التفاعل مع الحوار ومظاهر التأدب الشديدة التي انتابت الأطراف المشاركة فيه. بقيت أتساءل، لو أننا في دولة أجنبية، ودخل مسؤول ما على فعاليات مؤتمرنا، هذا إذا سُمح له بالمقاطعة، إلى أي اتجاه كان سيذهب الحوار؟ غاظني اعتقادي الجازم بأن هذا الحوار كان سيتجه إلى النقد القاسي للمسؤول واستغلال فرصة وجوده لإسماعه حقائق ما كانت لتصل له بواقعيتها وتأنيبات ما كانت لتصل إليه بحرقتها لولا هذا المرور. ولكن لإحقاق الحق لابد لي من سرد ملاحظتين مقارنتين ألحتا عليّ إبان هذا اللقاء السريع. أولاً اصطحبت المسؤول حماية مخيفة ما نرى أمثالها مع مسؤولينا في الكويت، حيث كان واضحاً أن هذه الحماية بدت مظهراً تعظيمياً أكثر منها حاجة حقيقية. كان مثيراً للنفور والقلق وجود مسلحَين في قاعة الاجتماع، تدور أعينهما بسرعة ساقطة على كل واحد من الحضور مرة بعد مرة، يتحركان بانفعال كلما حاول أحدهم الاقتراب من المسؤول، بل يقفزان من مكانهما كلما أتى النادل بكوب شاي أو ضيافة ليضعهما أمامه. افتخرت قولاً لاحقاً أمام زملاء المؤتمر أنه ليس لدينا مثل هذه المظاهر في بلدنا، حيث أن لا أمننا الداخلي ولا غرورنا الكويتي يحتاجانها أو يتحملانها.
أما ثانياً فلم تكن في الجانب الكويتي. تحدث المسؤول، وهو المعروف بثقافته العالية، باللغتين العربية والإنكليزية بطلاقة وبلاغة وترتيب للأفكار وبراعة في استخدام التعابير، دون أي ورقة مكتوبة وفي تفاعل مع كل ما جاءه من تعليقات بيقظة فورية، ما أثار غيظي مجدداً. في تحملنا شرور السياسة وطغيان المسؤولين، لمَ لا نستمع لخطابات بليغة، مثل هذا الذي كنت أستمع إليه، تنسينا همومنا وطغيانهم على الأقل؟ وإن كانوا غير قادرين، فلمَ لا يوظف هؤلاء مستشارين إعلاميين ينصحونهم بما يقولون وما لا يقولون؟ لمَ لا يرسل أصحاب السلطة أبناءهم لمدارس إعداد القادة ليعودوا قادرين على إقناع الناس بما لا يقبل الاقتناع، وليحولوا بكلامهم الشر إلى خير منمق كما يفعل الساسة المتحدثون؟ هل كتب الله علينا أن نعايش الآثام ثم تصفع بها وجوهنا هكذا دون تنميق؟ نحن نعرف أن الدولة “تُبلِع الإنسان المعارض العافية” ولكن هل كان يجب أن ترمى الجملة هكذا في وجوهنا؟ نحن ندرك أنك شمولي لا ترى للأمة سلطة ولكن هل كان يجب أن تضعها صورة وكتابة على مواقع التواصل هكذا في لب أعيننا؟ لماذا لا يصبح المثقفون مسؤولين عندنا؟ ولماذا لا يتثقف مسؤولونا حتى، على الأقل، نبلع الكلام الذي لا يبلع ونقتنع بالطغيان الذي لا يقنع؟
في الغالب أنا لست موضوعية في هذا الجانب، ولكنني حاولت رؤية الكأس نصف ممتلئة. ولا بد أن أعترف أن الحديث عن البرلمان الكويتي وتجربته المميزة في العالم العربي الذي بقي رفقاء المؤتمر يتداولونه ملأني فخراً واعتزازاً على الرغم من كل المثالب والمشاكل والجانب الصوري للديمقراطية الذي هو جزء من هذه التجربة، والذي تجنبت الحديث عنه، أعترف، شوقاً وطمعاً في مشاعر السعادة والفخار ولو لفترة قبل العودة للنقد المستحق. كما أن تواضع شكل السلطة مقارنة بأشكالها المحيطة بنا كان مثار فخري ومصدرا مهما لتجدد آمالي بأننا سباقون وأقرب من غيرنا الكثيرين لصورة جيدة من صور التوازن الديمقراطي. فقط لو أن مسؤولينا يحسنون تنميق كلامهم لفات علينا الكثير من الطغيان والتعسف، الذين هم جميعاً جزء لا يتجزأ من السلطة في كل أنحاء العالم، دون أن ننتبه كثيراً. فيا مسؤولينا لا تستهينوا بقوة الكلمة، في النهاية الإنسان في لبه لسان.