تدور حالياً حملة إعلامية مهمة في الكويت حول موضوع العنف ضد المرأة، الذي هو أحد أخطر وأبشع التعديات الحقوقية الإنسانية في العالم أجمع، والذي تصحبه تداعيات غاية في الخطورة على الأفراد والمجتمع ككل. والاعتداء على المرأة والعنف ضدها في العالم العربي موضوع غائرة عميق خطير، لا جانب مباشراً له يمكن التعامل معه من خلاله، ذلك أن المرأة في عالمنا هي كتلة من مفاهيم العِرض والشرف والسمعة، تحمل مسؤولية نظافة وجه العائلة بأكملها مهما لطخه ذكوره. وعليه تصبح عملية الاعتداء عليها، سواء من طرف عائلي أو خارجي، عملية عصية على التعامل، غير قابلة للمباشرة والوضوح، ويصبح مفهوم «الستر» سيد الموقف، خصوصاً إذا كان المعتدي هو أب أو أخ أو فرد من العائلة، والذي لن تضحي العائلة بذكورته من أجل سلامة أنثى قابلة للتعويض.
والعنف له أشكال عدة: عنف جسدي، وعنف لفظي، وعنف نفسي يشمل عملية غسيل المخ التي تقسر المرأة ليس فقط على تقبل العنف الموجه ضدها، بل وعلى تبريره وصياغته ليصبح خطأها هي في النهاية. هذا النوع من العنف تحديداً، عنف غسيل المخ، يأتي لاحقاً لأي نوع من أنواع العنف الموجة ضد المرأة في صورة لوم الضحية، حيث لا يكتفي الجاني أو الأسرة أو حتى المجتمع ككل بتعريض الضحية للاعتداء، بل يزيدون بلومها عليه وبتفسير المسببات نسبة للضحية بحد ذاتها: هي تطاولت، هي ظهرت بمظهر غير لائق، هي عصت، أو حتى هي ردت ودافعت في حين كان يجب عليها أن تهدئ وتخنع وتصمت. لا يبدو أن العنف الجسدي ذاته يمكن أن يصل موصل هذا العنف النفسي إيذاء وسوءاً وانتهاكاً، ذلك أنه لا شيء أسوأ من أن تُنتهك روح وكرامة الإنسان مباشرة بعد انتهاك جسده، ولا أحد يتعرض لهذا «الكروشيندو» من الآلام والاعتداءات مثل المرأة في عالمنا العربي الغامض الداكن. بكل تأكيد، لا ننكر الاعتداءات على المرأة في كل أنحاء العالم، إلا أن الفرق يكمن في تلك «الدكانة» التي تُستخدم في عالمنا لتغطية الصورة و»لستر» الجاني، هذا السواد الذي تتشح به جرائم الرجال عندنا تحت غطاء مفاهيم الشرف والسمعة والحفاظ على ذَكَر العائلة.
ولربما يمكننا أن نشهد أحد أبرز مظاهر العنف المتكرر بشكل يومي ضد النساء عبر وسائل التوصل. ذات عملية الإسكات، ذات عملية الاعتداء النفسي واللفظي، ذات عملية القهر السُّمعاتي كلها يتم تداولها عبر وسائل التواصل لإسكات صاحبة الصوت المرتفع، أي صوت ومن أي نوع. من أبسط مظاهر القهر النفسي السخرية من الشكل والمعايرة بالعمر، مروراً بدرجة أخطر من التهديد، التعدي اللفظي والتلميح الاعتدائي، توجهاً إلى أشد درجات الانتهاك، والضرب في العرض والشرف والسمعة، كل هذه تتعرض لها النساء بشكل يومي عبر وسائل التواصل إخماداً لأصواتهن أو آرائهن أو وجودهن «الافتراضي» ككل، وهي كلمة معبرة فعلياً في إشارتها إلى الوجود الرقمي للنساء في عالم الإنترنت الافتراضي، وكذلك إلى الوجود الافتراضي للنساء في العالم الحقيقي، إلى هلامية كيانهن، وأحياناً مؤقتيته، كأنهن عبء يُنتظر التخلص منه فعلياً، كما محاولة التخلص منه افتراضياً بالسخرية وتلطيخ السمعة، في أي وكل لحظة.
تحتاج نساء العالم إلى حماية نوعية، إلى ثورة إنسانية خاصة بهن كنصف الجنس البشري المعرض باستمرار للانتهاك والاعتداء والعنف بدافع من سبب بدائي ذي جذور عميقة بدائية تتعلق بالضعف الجسدي والمجتمعي والمادي. تحتاج النساء إلى قوانين صارمة تحميهن، افتراضياً كما واقعياً، في عالم الإنترنت كما في العالم الحقيقي، فالعالم الافتراضي يشكل ملاذاً اليوم للكثيرات غير القادرات على التواصل والإعلان في حياتهن الحقيقية، وعليه لا بد من تأمينهن وتأمين مساحتهن الافتراضية حتى لا تضيع آخر الثغرات التي يستطعن التنفس من خلالها.
بلا شك، نحتاج لتعديلات صارمة على كل قوانين الأحوال الشخصية عبر العالم العربي، والتي هي مُساهِمة في تعزيز العنف ضد النساء، نحتاج إلى تفعيل قوانين جديدة صارمة ضد العنف يمكنها التصدي لحجم وخطورة التعديات التي تتعرض لها النساء، ونحتاج لقوانين حد أدنى تحكم العالم الافتراضي وتحد من الانتهاكات النفسية ومن خطاب الكراهية الجندري الذي تتعرض له النساء طوال الوقت. إلا أن أهم ما نحتاجه هو عملية حلحلة كاملة لهذه الكارثة الإنسانية، نحتاج إلى تحول مجتمعي وتغير فلسفي عميق في طريقة تفكير المجتمع. ورغم أن الاحتياج الأخير هذا هو الأصعب، إلا أنه الأسلم محافظة على حقوق الجميع، الرجال والنساء، ذلك أنه رغم تأكيدي على الضرورة الصارخة للتشريع للعالم الحقيقي والافتراضي حماية للنساء، إلا أن هذه عملية دائماً ما ستكون مصحوبة بمخاطرة المبالغة في التشريع، والتعدي على حرية الرأي والتعبير للطرف الآخر (مثلاً كيف يمكن أن يتم التشريع ضد السخرية والتنمر على النساء في حين أنهما يدخلان في حيز حرية الرأي والتعبير؟) وعليه، فإن التغيير المجتمعي هو المطلب الحقيقي، الأسلم والأكثر فعالية، ولكن إلى أن تتحقق خطوات حقيقية بهذا الاتجاه، لا بد للقوانين أن تضرب بيد من حديد لتوقف الاعتداءات المشهودة بشكل يومي في كل عالم تدخله المرأة، حقيقي، افتراضي، وحتى ذاك السري الخفي، العميق في باطن روحها، حيث يجد له المجتمع الذكوري العنيف مدخلاً لينفذ منه إلى هذا العالم وليقنع صاحبته برداءتها وذنبها، وليحطمها من داخلها.
إلى أن يتحقق كل ذلك، وبعد أن يتحقق، لا بد لنا أن نقاوم مفهوم الستر، لا بد لنا أن نفضح الاعتداء وأصحابه. لا تسترن أحداً سيداتي، عليكن بالفضيحة، وحدها ستغسل قلوبكن وستُحَجِّم هؤلاء الذكور الذين «يخافون ولا يختشون».