هل تضاعف السنوات الأحزان أم أنها مجريات الحياة من حولنا؟ حين تظلم الدنيا كثيرا تحضرني مقارنة غريبة جدا، أتخيل سكان سويسرا مثلا، أو لربما النرويج أو الدنمارك، أتخيل مجريات حياتهم اليومية وهمومهم، لا أحد يخلو من الهموم بكل تأكيد، أتأمل في نوعية “قماشة حياتهم” وأقارن، لا أستطيع سوى أن أقارن، كيف يشعرون وبم يفكرون؟ ما هي همومهم ومخاوفهم؟ كيف هي نوعية حيواتهم؟ كيف تختلف قيمة حيواتهم عن حيواتنا في شرقنا الأوسط الغريب، ما هي الأفكار التي تملؤها، القلق الذي يحيط بها، والمفاهيم اليومية التي تسيرها؟
حين تأتي فرصة زيارة مدينة أوروبية أزعج زوجي دائما بهذه التعليقات الغريبة: انظر لهؤلاء على الطاولة أمامنا، تتوقع فيم يتكلمون؟ ما هي أرفع درجات قلقهم؟ ما هي أهم المفاهيم اليومية التي يتعاملون من خلالها مع من هم حولهم؟ كم يبدون متعجرفين وهم يتحدثون بحرية ويتصرفون وكأنهم يملكون الأرض التي يمشون عليها، يطالبون ويأمرون وكأن حكوماتهم “موظفة” عندهم، كم تبدو هذه الحياة المتعالية الواثقة غريبة. لا أعرف سببا لإمساك هذه الأفكار بقصبتي الهوائية، تخنقني وتمنع عني فسحات التنفس المؤقتة. يضحك مني زوجي مشيرا دوما لتخصصي العملي الذي يجعلني أحلل كل شيئ أمامي، “كفاية تفكير وتحليل، الا تتعبين؟” متعبة أنا طوال الوقت، لكنني لا أملك قيدا على هذا الشيطان الرجيم الذي يسكن جمجمتي، هذه الآلة البدائية التي لا تسكن ولا دقيقة حتى حين يسكن جسدي في رحمة الليل. قبل يومين، كنت أراجع مسرحية The Ghost Sonata للمسرحي النمساوي العظيم أوغست سترانيبيرغ استعدادا لتدريسها في الفصل اليوم التالي. نمت ليلتها أحلم بالبيت الكابوسي الذي هو محور المسرحية، رأيته في المنام، بيت ورثته عن أحد أقربائي، مليء بالغرف، خلاب الجوانب، فيكتوري الشكل، معبقة جوانبه بالذكريات والأحداث، لا أعرف كيف فهمت ذلك تحديدا في الحلم، بيت رائع الجمال لكنه متهدم معطوب، تخر المياه من جنباته، وكنت أقف مع البعض من أقاربي في وسطه أفكر، أبيعه أم أرممه وأعيش فيه مع كل أهلي، القريبين والبعيدين؟ صحوت من نومي مرهقة، لا أفهم معنى لحلم حول مسرحية قرأتها ودرستها مرات لا تحصى ولا تعد الى فيلم سينمائي منامي مرعب، ما مناسبة الحلم؟ لماذا لا يهمد هذا المخ للحظة فيجد سلاما ويعطيني شيئا منه؟
في الصباح حكيت لزوجي عن الحلم، ضحك وهز رأسه هزة اليائس، كأنه يقول لا فائدة منك ومعك. معه حق، لا فائدة مني. أحيا أنا من ضمن الثمانية بالمئة من بشر هذا العالم، حيث يوجد سقف فوق رأسي، أكل في ثلاجتي، ثياب على جسدي، وبعض النقود في جيبي، أنا من أقلية الأقلية المحظوظة في هذا العالم، أعيش في الكويت، بقعة جغرافية مغرمة أنا حد التيم بها، بلد عربي هو الأفضل اقتصاديا، ديمقراطيا، وأمنيا، إلا أنني لا أملك سوى أن أقارن بغيري، بمن هم خارج الدائرة الحارة للشرق الأوسط، حيث لا قلق من جيران متهورين، لا أموال سياسية تلعب في مشاهد الحياة بشكل واضح، لا شبكات إجتماعية معقدة مخفية في السراديب، تتحكم في حيواتنا وتتخذ عنا قراراتنا وتسير كل أمورنا.
في الدنمارك، هل يقلقون، كما نقلق في شرقنا الأوسط، من الوساطات الفاسدة القادرة على أن تحرمك حقك وتسلمه لفاشل لا يملك شيئا سوى اسم رنان أو معرفة مهمة؟ في النرويج، هل يفكرون مطولا، كما نفكر في دولنا العربية، قبل أن يكتبوا تغريدة أو يصرحوا تصريحا أو يطلقوا رأيا سيراقبه ألف قانون للإعلام، وللمرئي والمسموع، وللصحافة، تقف فوق رأسه قوانين ازدراء أديان ومساس برموز تخنق كلماتك قبل أن تصل لشفتيك؟ كيف يشعرون حين يتحدثون بحرية تامة عن الأنظمة والسياسات في بلدانهم؟ كيف تغير هذه الحرية والطلاقة في نوعية حيواتهم، في نسيج أيامها، في كثافة تجربتها التي ولابد أنها تحولها من مجرد كريمة مخفوقة خفيفة محلاة بسكر صناعي تتطاير في الهواء بمجرد النفخ الخفيف عليها، إلى عجينة ثقيلة غنية بالقيم الغذائية الروحية، عجينة تخلق أطعمة ومذاقات مختلفة تعطي تجربة الحياة عمقا أكبر ومعنى أعمق وزمنا أطول، زمن تجاربي وليس سنواتي، يجعل الحياة تبدو أطول وأغنى وأكثر معنى. أحسدهم، نعم أحسدهم، حتى من موقعي المتميز في العالم العربي أحسدهم، فأقل شعور بالقيد مؤذ، وأهون دوافع الخوف والقلق مؤلمة، تخرب الأيام وتأخذ من تجربة الحياة القصيرة والصعبة أصلا.
لربما لهذا ليس مقدرا للإنسان جينيا أن يعيش طويلا، كيف يستطيع أن يتعامل مع تراكم القلق والأحزان؟ أو كيف يستطيع، من الطرف الآخر، أن يستمر في ظلمه وجبروته؟ ليس لي حق في الحزن، أعرف ذلك، ومن موقعي علي واجب المساعدة بما أن ضربة الحظ الجينية وضعتني ها هنا، ووضعت هؤلاء هناك. لكنني حزينة معظم الوقت، كلما تجددت قصة، تجددت أحزاني معها كأنني أختبر الحياة لأول مرة، متى أعتاد شهود الأسى وأنا ابنة هذا الشرق الأوسط ونتاج كل اختلالاته؟