لا حياء في الغش

شاهدت قبل أيام فيديو الشباب الصغار وهم يدافعون عن “حقهم” في الغش في الامتحان على اعتبار أن هذا هو السائد منذ وعوا على الدراسة في المدارس الحكومية، وأن المدرسين كانوا “يساعدونهم” في الامتحانات بتزويدهم ببعض الإجابات. أحد الشابين الصغيرين المتحدثين قال إنه وحيد والديه ويحتاج أن يتخرج، وأنه تعب جداً من موضوع الدراسة هذا. الفيديو كله مهم جداً في اعتقادي لما يمثله من انعكاس واضح لنظام المجتمع الكويتي ككل.

والغش إدمان، مثله مثل كل ممارسة مريحة في الحياة، ومن يبدأ بالغش مرة ويرى سهولة النتائج، يصعب عليه جداً أن ينقطع عن هذه الممارسة خصوصاً في غياب التداعيات المستحقة. عندنا في الكويت لا تغيب التداعيات فقط، ولكن يحضر التشجيع، بل يبرز المدافعون عن الممارسة، ولا ننسى اعتصام الأهالي قبل فترة دفاعاً عن أبنائهم مرتكبي الغش، وتصريح أحدهم بأن الكل تقريباً يغش مما يحول الممارسة لحلال بلال، أليست القاعدة أن إذا عم الظلم فهو عدل؟

ولقد ضربت هذه الممارسة جذورها عميقاً في مجتمعنا بدليل بروزها في أكثر من مجال، وخلقها مشاكل قاهرة ومحرجة جداً يمكن لها أن تتسبب في هدم البنية التحتية للمجتمع بأكمله. الغش في الامتحانات على كل المستويات الدراسية هي المشكلة التعليمية الأولى عندنا في الكويت، وتزوير الشهادات العليا هي الفضيحة الأكبر عندنا في الكويت، واستخراج الطبيات المزورة هي المعضلة الأكثر عسارة على الضبط عندنا في الكويت، وتزوير الأبحاث العلمية هي الكارثة الأكثر إحراجاً عندنا في الكويت، والواسطات هي المخرب الأول لأماكن العمل والصانع الأول للفشل والمهرب الأول للكفاءات من الكويت، واشتراط توقيع البدون على صحة المعلومات في بطاقاتهم قبل أن يرونها هو المعطل الأول لحيوات وحقوق الفئة الأضعف من الناس في الكويت وهكذا، نلاحظ أن أكبر مشاكلنا الحالية، بخلاف الفساد المالي الذي يعتبر من عاداتنا وتقاليدنا، هي مشكلة الغش على كل المستويات والصعد، والتي ترتبط طبعاً ارتباطاً وثيقاً بالفساد والحرمنة، وكملاحظة جانبية، لاحظوا الطرق التي تحاول بها الحكومة في كل مرة حل المشكلة، مثلاً تحديداً عدد الطبيات التي يصرفها الطبيب، هي طرق كلها لا تخلو من الفكاهة، وكلها تعاني المشكلة ذاتها: الغش في الحلول.

وعودة للفيديو، أجده فعلاً مرآة لواقعنا بداية من واقع التعليم في أول مراحله، ووصولاً الى واقع نظامنا الحكومي في أرفع مقاديره، فنحن أولاً قد اعتمدنا الغش أسلوباً ما عاد حتى مستنكراً أو مخفياً، المسألة الآن أصبحت “عيني عينك” لحد أن الإنسان الملتزم أصبح “معقدا ومحبكها زيادة عن اللزوم”، حتى أننا وصلنا الى أن تُطلب منك الواسطة بكل صراحة إذا ما تقدمت لوظيفة أو أردت إنهاء معاملة أو حتى احتجت لموعد طبي في مستشفى حكومي، بل لقد وصلت بنا الحال الى الخروج اعتصاماً “من أجل الغش” ودفاعاً عن الغشاشين، فأي خطأ ارتكبه الشابان صاحبا الفيديو وأي توجه مغاير اتخذاه؟

المثير للاهتمام كذلك استخدام أحد الشابين منطق أنه وحيد والديه، وهذا المنطق الذي يجر الظروف الاجتماعية ويدخل الطبيعة الأسرية في حيز العلم والعمل هو منطق قبلي عشائري بحت، يعكس بكل بساطة الطبيعة القبلية لدولة الكويت، التي تبدو في الظاهر كدولة مدنية مقامها المؤسسات والوزارات والقوانين المدنية، في حين أنها في الباطن دولة تنظمها العلاقات الاجتماعية والظروف الأسرية والقوى العشائرية التي تحكم كل شيء وأي شيء.

ذات زمن كان من يغش منا لا يخشى المدرسة في المقام الأول، بل يخشى والديه اللذين سيأكلانه بأسنانهما ليس لارتكابه “فاحشة” تعليمية فقط، ولكن لما تسبب به من حرج عظيم لهما، وفي هذا الزمن، لا يسامح الوالدان فقط، ولا يقبلان بالممارسة فقط، هما يخرجان اعتصاماً للدفاع عن حق ابنهما بالغش، مرحلة غير مسبوقة من قلة الحياء، فهل من لوم على هذين الشابين وعلى بقية الأبناء والبنات وهم يتفننون في خلق طرق غش عظيمة التطور والذكاء؟ إذا كان الغش مثبتا عندنا تاريخياً وعلى المستوى العام من 1967، فكيف سنقول اليوم عيب للصغار؟