لو كان الأمر لي، لذهبت بهم إلى إحدى جزر الكويت، طوقتهم هناك بطوق صافي الزرقة وعلقت لهم قلبي تميمة على صابون الموج وكتبت لهم بدمي تعويذة على رمال الشاطئ العذراء. لو كان الأمر لي لما أعطيتهم الفرصة أن يكبروا فيختلطون بالمجتمع وتشاؤمه ويأسه، لحبستهم في شبابهم وأحلامهم وعذوبة أصواتهم، لأغلقت عليهم فطرة نقية تتعبد المحبة وتؤمن بالجمال كطريق للخلاص… فقط لو كان الأمر لي.
في ليلة سبحت في فضة القمر، ذهبت محملة بهذه الحقيبة التي لا تهبط عن الظهر أبداً، فيها مشاغل ومخاوف وتطلعات، هموم ومخططات، قلق وأمل، دموع وابتسامات، حملتها كلها، غير مختارة، لأحضر أمسية موسيقية أحيتها دار الآثار الإسلامية في 29 من نوفمبر لطلبة كلية التربية الأساسية، قسم التربية الموسيقية. شباب وشابات يبتهج القلب لرؤيتهم يتراكضون، ينتظمون في الصفوف ويتفرقون بنظام، يحملون أصواتهم في عيونهم معجونة بمقتبل سنواتهم وآمالهم التي لم يصل إليها الأشرار بعد، قلوبهم التي لم تخربها «المؤسسة»، وطموحهم الذي لم تغتله واقعية زمان «احتل زمنا… وعصر محا ما سبقه وأحل عليه اللعنة» كما يقول الرائع ربعي المدهون في روايته «السيدة من تل أبيب».
وما إن بدأت أمل حسين وولاء الصراف بطقطوقتيهما «ليه تلوعني» و»مادام تحب، تنكر ليه» حتى سقطت الحقيبة عن ظهري وتحررت أنفاسي فابيضت القاعة، أم صفت عيناي؟ بأصواتهم الشابة الرائعة، بعدها دخلت الدكتورة حنان الجندي والدكتور محمود الفرج ليغنيا أوبرا «Time to Say Goodbye»، فارتجت القاعة الصغيرة:
«عندما أكون وحيدة
أحلم في الأفق
وتفشل الكلمات
نعم، أعرف أن ليس هناك ضوء
في غرفة
ليس بها شمس
إن لم تكن معي»
ولولا قامتي التي يعيقني طولها، لوقفت على قدمي إجلالاً طوال الوقت وصرخت لهما: بل الضوء يتسرب من شقوق السعادة التي خلقها زلزال صوتكما، فاصرخا علّ الدنيا تصحو من غفوة الكراهية الثقيلة، اصرخا علّ المحبة تعود من بين الشقوق… ويبدأ الأمل. وبدأ الأمل ما إن أنشد الكورال أغنية «صناع المستقبل» للأستاذ يوسف السبيعي، ألحان دكتور عامر جعفر، وهو عمل يعيد الأمل في الأغنية الوطنية بعد أن تغيرت معانيها ومذاق كلماتها، فسرقها فيما سرق، وحش يأكل الذهب ويبصقه لإثبات وطنيته. ثم توالت الأغاني بين التراثية والفيروزية، قتراقصت الأهداب تُلاحق الحنين، رمشات كثيرة تشير إلى لواعج القلب ولمحاولات العيون رفرفة دموع التوق. أطلق الفتى الشقي وهب عيسى العباسي حنجرته بـ»ترى الليل»، فرافقناه نبث مسرحنا الصغير لواعجنا:
«ترى الليل عودني على النوح والسهر
يذكرني بياع الهوى يوم أنا شاري»
وحملتنا الجميلة أمل حسين إلى جبيل بيروت وهي تغني وداعاً جاش في القلوب ذكرى، فأنشدت وسبحان من سخر لها صوتها:
«لا إنت حبيبي ولا ربينا سوى
قصتنا الغريبة شلعها الهوى»
تطرف أمل بعينها تجاه أستاذها، تتلقى الرضا وتشدو، فأصلي على نغمها ليحفظها الرب ولا يريها فراقاً أبداً، ليتبعها الرائع عبدالرحمن الديين متغزلاً بالحشمة التي لم تكن تعرف تطرفاً، فوقف أمام ميكرفونه، وحرك شفتيه فيما بدا ابتهالاً لله يشيع في القلب حناناً للشاب ولمخاوف تجربته، وما إن بدأ، حتى هاجت القاعة وكأنها تستجدي الزمان الذي لا يعود:
«قلت اوقفي لي وارفعي البوشية
خليني أروي ظامئي العطشاني»
تعالت «الصفقة» الكويتية في القاعة، وانتظم الجمهور في إيقاع تصفيقي وكأنهم قد أدوا بروفات على دورهم… كجمهور. لم أعرف ما أفعل، فرفعت كفيّ إلى عينيّ، فما كان منهما إلا أن انتظمتا مع البقية، روحاً من الماضي رفرفت على قاعتنا، وحدت أيادينا، وسلبت قلوبنا، وتركتنا في غيبوبة الحنين. وعندما وقف وهب العباسي أمام ميكرفونه مرة أخرى ليؤدي «يا سعود»، كان الأمر قد حسم: بُعث الأمل، ورفرفت السعادة، وتلك مصيبة في زمان الأمل فيه «هبًة» والسعادة «إشاعة» و»سعود» يغيب أكثر مما يحضر، وفي أداء رائع مرفق بتعابير وجه شقية معبرة، انسجم وهب:
«يا سعود فات من الشهر خمسة وعشرين
ما شفت خلي وا ويلاه»
تبتسم عينا وهب، فنضحك معه، ينسجم و»يتسلطن» فنعود معه إلى زمان لم يعرفه، نصفق ونردد خلفه «وا ويلاه» فيندمج سعود:
«يا سعود ما في صاحبي شي من الشين
جود التغلي»
فيعلو صوتي منشزاً «وا ويلاه» على هذا «التغلي»، وإلى متى تتغلى الأيام، ومتى نرى «سعود»، وهل سيبقى وهب يناديه أم سيقولون له إن سعود في النار، ولذا ليس له أن يرجوه ويبثه لواعجه؟ هل سيبقى وهب شقياً منفعلاً بالحياة صادحاً بحبه للفن؟ وهل ستظل أمل تطرف باتجاه أستاذها وهي تتسلق السلم الموسيقي بصوتها؟ وهل سيبقى الطلبة يختمون ما سيأتي من «حفلات حياتهم» بالهولو كما فعلوا ليلتها أم أن الوحش قادم ليسرق أصواتهم؟ هل سيرحمونهم أم يسرقون منهم حياتهم فيخسرون هم الدنيا ونخسرهم نحن؟
مثلما يرمي البعض العقال احتراماً ونخوة، تمنيت لو لان قفصي الصدري، فأطلعت من خلفه قلبي ورميته لهم «نخيتكم… لا تكبروا».